غيب الموت في 14 آب قامة فكرية لبنانية وعربية بسطت أفكارها ورؤاها في مؤلفات عدة وفي الممارسة السلطوية عندما كان وزيراً في بلاده. بحيث جسد معلماً فكرياً سوف تفتقده الأجيال العربية في ظل صعود الثقافة العابرة غير الرصينة.
وقد كتب عنه بعد رحيله عدة مقالات ودراسات، حملت تساؤلات منها:
من اي زاوية تدخل الى شخصية جورج قرم؟ عالم الاقتصاد، أم المؤرخ، أم عالم الاجتماع، أم المنظّر المالي والاقتصادي؟ حين تسلم حقيبة المال في عهد الرئيس اميل لحود، قيل انه وزير المال الوحيد الذي يضحك بين وزراء المال، بالتكشيرة التقليدية. حاول، بكل الوسائل، أن يقفل في هذه الوزارة الدهاليز التي تؤدي الى جهنم، على أيدي أكلة عظام البشر الذين ابتلعوا المال العام، وابتلعوا ودائع الناس. القصة طويلة، وكان يروي لك بعضاً منها، لينتهي بالقول “هم من الغباء بحيث لا يدرون أنهم يشقون طريقهم، بأظافرهم، الى جهنم”.
كان يعلم أن لا مكان لـ “جيوبوليتيكا الملائكة” في التراث البشري. في كتابه “انفجار المشرق العربي”، وهو واحد من 27 كتاباً نقلت الى العديد من لغات العالم، راهن على حدوث زلزال في العقل العربي للانتقال من استراتيجية الاجترار إلى استراتيجية الانبعاث. فوجئ بالصدمات المتتالية، ليسأل “إلى أين تقودنا تلك السلحفاة؟”.
جورج قرم هو أحد أول المفكرين العرب الذين أيقنوا في وقت مبكر جداً (عام 1992)، عند صدور كتابه «الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة»، بالمخاطر الكبرى التي يشكلها تحرر الرأسمال من الضوابط السياسية والاجتماعية بالنسبة إلى غالبية شعوب العالم، وبشكل خاص إلى الشعوب العربية. وهو يوضح في كتاب صدر في عام 2010، «حكومة العالم الجديدة»، كيفية تحوّل قوى رأس المال، من شركات كبرى عابرة للقوميات ومؤسسات مالية ومؤسسات اقتصادية ومالية دولية، إلى نوع من مجلس لإدارة العالم ومركز صنع القرار الفعلي الذي يخضع له قسم كبير من حكومات المعمورة. يطرح في الكتاب أيضاً المبادئ والأسس لبلورة خيار بديل من العولمة المتوحّشة، مستنداً إلى أبحاثه وأبحاث عدد من المفكرين الاقتصاديين النقديين، كفرنسوا بارتان، التي تم تجاهلها من قبل «العلوم الاقتصادية» السائدة، وقد أصبحت هي الأخرى خاضعة لطغيان رأس المال.
رحيل جورج قرم خسارة للأجيال العربية التواقة لمفكرين يرسمون معالم طريق التنمية والتقدم.