علاقات تونس والمجر عريقة وتاريخية
الثقافة والإعلام قوة ناعمة لتعزيز قيم التعاون
المجتمع المجري يحب الحياة ويعشق الثقافة
منذ أن بدأ سعادة عبدالكريم الهرمي عمله في المجر سفيراً لجمهورية تونس وهو ينشد تطوير العلاقات بين البلدين والإهتمام بنمط التواصل والتفاعل مع الفعاليات الثقافية والإعلامية العربية والمجرية.
ويغدو الحديث مع سعادته رافعة فكرية و ثقافية لما يكتسي من ثقافة وبعد تنويري متحها من إرث بلاده التي كانت ومازالت علامة مضيئة في الثقافة العربية الإسلامية.
وقد أجرت الدانوب الأزرق حواراً مع سعادته هذا نصه:
-هل تحدثنا عن مسار عملكم الدبلوماسي؟
– في البداية يسعدني أن أهنئكم وأهنئ نفسي على إعادة الإصدار الإلكتروني لمجلة الدانوب الأزرق في حلتها الجديدة والأنيقة متمنيا لكامل الفريق العامل فيها مزيدا من النجاح والتألق على درب المساهمة الجادة في نشر الثقافة العربية في المجر وهي مكسب يحق لكل عربي أن يفخر به ويساهم كلّ من موقعه في ضمان ديمومته.
– كما لا يفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان لمجلة الدانوب الأزرق على إتاحة هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار.
– وبخصوص المسار الدبلوماسي، أودّ أن أشير إلى أنّي التحقت بالسلك الدبلوماسي التونسي سنة 1997 تلقيت بعدها عديد الدورات التكوينية داخل تونس وخارجها في مجالات ذات علاقة بالعمل الدبلوماسي. وتدرجت على امتداد 27 سنة من العمل في مختلف الرتب الدبلوماسية والخطط الوظيفية في عديد الإدارات بوزارة الشؤون الخارجية إلى أن وصلت إلى رتبة وزير مفوض وتعييني في خطة مدير إدارة مركزية. كما كان لي شرف تمثيل بلدي تونس في الخارج من خلال تعييني كدبلوماسي في سفارة تونس في سلطنة عُمان من 2003 إلى 2008 ثم في سفارة تونس بالدوحة من 2011 إلى 2016 قبل أن أحظى بشرف تعييني من قبل سيادة رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد سفيرا لتونس بالمجر في نوفمبر 2020.
– كما تعززت تجربتي الدبلوماسية من خلال العمل بالدائرة الدبلوماسية برئاسة الجمهورية التونسية من 2016 إلى 2020 وكانت تجربة ثرية ومفيدة أضافت لي الكثير نظرا لخصوصية العمل في صلب هذه المؤسسة العريقة ومع أعلى هرم السلطة في البلاد.
– كيف تصف العلاقات التونسية المجرية بعد نحو 68 عاماً من العلاقات الدبلوماسية؟
– لا بدّ من الإشارة في البداية إلى أنّ العلاقات التونسية المجرية هي علاقات عريقة وتاريخية تعود إلى سنة 1956 أي بعد أشهر قليلة من حصول تونس على استقلالها الوطني في 20 مارس. وتعتبر تونس الدولة المغاربية الأولى والرابعة في العالم العربي (بعد العراق ومصر وسوريا) التي أقامت علاقات دبلوماسية مع المجر.
– وللتاريخ فقد ساندت تونس رغم حداثة عهدها بالاستقلال الثورة المجرية في أكتوبر 1956 ودافعت عن مطالب الشعب المجري في تحقيق الحرية في منابر منظمة الأمم المتحدة.
– فمنذ الاستقلال ربطت تونس علاقات صداقة وتعاون متبادل مع المجر قوامها الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة ما فتئت أن تعزّزت مع مرور السنين في مختلف المجالات. وقد ساهم وجود لجنة اقتصادية مشتركة برئاسة وزيري خارجية البلدين في تعزيز مختلف مجالات التعاون بين البلدين وإثراء الإطار القانوني المنظم للعلاقات الثنائية وفتح آفاق واعدة في المستقبل. وقد عقدت هذه اللجنة دورتها الخامسة في بودابست في شهر جوان 2023 برئاسة وزيري خارجية البلدين السيد نبيل عمار ونظيره المجري “بيتر سيارتو” وذلك بالتوازي مع تنظيم الدورة الثالثة لمنتدى الأعمال الاقتصادي التونسي المجري بمشاركة أكثر من 79 سيدة ورجل أعمال وممثلي عديد الشركات التونسية والمجرية ينشطون في قطاعات الفلاحة والتحكم في المياه والصناعات الغذائية وتكنولوجيا المعلومات والأعلاف والخشب وتحويل النفايات والأنشطة السياحية.
– وشهدت العلاقات التونسية المجرية ديناميكية جديدة وزخما متناميا بعد الثورة لا سيما في السنوات الأخيرة وهي مرشحة لمزيد التطور والنماء والتنوع في المستقبل بفضل ما يتوفر للبلدين من إمكانيات وفرص حقيقية للشراكة والتعاون ووجود رغبة سياسية مشتركة للارتقاء بهذه العلاقات إلى أعلى المراتب. وقد نشطت العلاقات السياسية وتواترت المشاورات والمباحثات البناءة بين كبار المسؤولين في البلدين لا سيما من خلال زيارة وزير الخارجية التونسي السيد نبيل عمار إلى بودابست يومي 20 و21 جوان 2023 لترؤس أشغال الدورة الخامسة للجنة الاقتصادية المشتركة وما نتج عنها من نتائج إيجابية ولقاء رئيس الحكومة التونسي السيد أحمد الحشاني مع الرئيسة المجرية السيدة “كاتالين نوفاك” يوم 16 جانفي 2024 على هامش منتدى “دافوس” الاقتصادي.
– وتتقاسم تونس مع المجر الحرص على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية والدفاع عن حرية الاختيارات الوطنية وحمايتها من التدخلات الخارجية وصون سيادة القرار الوطني من أيّ إملاءات أو ضغوط خارجية ورفض دروس من أيّ جهة كانت.
– وتشهد المبادلات الاقتصادية والتجارية نسقا تصاعديا من سنة إلى أخرى كما عرف التعاون في مجال التعليم العالي تطورا ملحوظا لا سيما من خلال تبادل المنح الدراسية الجامعية، إلى جانب الحركية السياحية والإقبال المتزايد للمواطنين المجريين على السوق السياحية التونسية.
– ما القسمات الاجتماعية والثقافية التي تبدت لكم خلال معايشتكم للمجتمع في المجر؟
– لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى العمق التاريخي والحضاري للشعب المجري ومدى تمسكه بإرثه على امتداد قرون خلت واعتزازه بماضيه وموروثه الثقافي وتجذره في بيئته الأوروبية وتأثيره الثقافي فيها. وتعتبر المجر واحدة من أقدم البلدان في أوروبا ولديها معالم تاريخية كثيرة ومتنوعة وثرية تمتد على كامل التراب المجري.
– وبالإضافة إلى العمق الحضاري والثقافي للشعب المجري الذي يتجلى في العادات والتقاليد والقيم المجتمعية، تجد المجتمع المجري مواكبا للتطورات من حوله ومندمجا في محيطه ومنفتحا على الآخر ومعتزا بلغته المجرية وبثقافته وبهويته الوطنية.
– والملاحظ من خلال معايشتي للمجتمع المجري أنّه مجتمع حرّ وراق ومتماسك ومتصالح مع ذاته وهويته، يحب الحياة ويعشق الثقافة ويتذوق الشعر والموسيقى والمسرح ومختلف ألوان الإبداع الثقافي. واللافت أيضا في الحياة الثقافية المجرية حركة الترجمة النشطة التي تشكل عنصرا مهما في هذه الحركية الثقافية وتؤشر إلى مدى انفتاح النخب الفكرية والثقافية في المجر على حركة الإبداع العلمي والثقافي العالمي وهذا أمر غير مستغرب لبلد تمكن على امتداد تاريخه الحديث من إحراز نخبه العلمية على أكثر من 16 جائزة نوبل في مختلف حقول المعرفة العلمية.
– هل لنا بفكرة عن الجالية التونسية والطلبة الدارسين في المجر؟
– يبلغ عدد أفراد الجالية التونسية المقيمة في المجر 1314 يشكل الطلبة حوالي %50 منهم أما البقية فيتوزعون إلى كوادر وفنيين وعملة وخبراء يعملون بعدد من الشركات العالمية في قطاعات البنوك والصناعة والتجارة والسياحة والخدمات إلى جانب عدد من المهن الحرة.
– وشهد عدد الطلبة التونسيين الدارسين في الجامعات المجرية تزايدا منذ انطلاق برنامج المنح الدراسية المجرية “Stipendium Hungaricum” سنة 2014 وقد تعزّز هذا العدد في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المجر وجهة تعليمية محبذة للطلبة التونسيين من بينهم الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة نظرا لما وجدوه في هذا البلد الصديق من أسباب الراحة وسرعة الاندماج والتحصيل العلمي المرموق.
– كيف ترى دور الثقافة والإعلام في مسار العمل الدبلوماسي؟
– لا أحد ينكر اليوم الدور المتعاظم للثقافة والإعلام في العمل الدبلوماسي اليومي حتى أصبحنا نتحدث اليوم عن روافد جديدة للدبلوماسية التقليدية على غرار الدبلوماسية الثقافية والإعلامية والاقتصادية وهي في الحقيقة جزء أصيل من العمل الدبلوماسي في مفهومه العام والشامل. فالثقافة تلعب دورا محوريا في العمل الدبلوماسي وهي القوة الناعمة لتطوير العلاقات بين الشعوب وتعزيز التفاهم المتبادل بينها وهي المرآة التي تقدّم من خلالها الدول والشعوب نفسها إلى الآخرين.
– كما تمتلك الثقافة والإعلام القدرة على التأثير المباشر والإقناع لنشر القيم والأفكار وطرح الرؤى والتصورات المختلفة ولها نفوذ عابر للحدود والقارات ولا تحتاج إلى أدوات الإكراه المادي لتمريرها فهي الأداة المثلى للترويج بطريقة سلسلة لصورة البلاد بما في ذلك العنصر الاقتصادي.
– وبهذا المعنى يعتبر الإعلام بمختلف مكوناته التقليدية والمستحدثة عنصر أساسي في الاتصال الدبلوماسي والسياسي ووسيلة فعالة في العمل الدبلوماسي إذ بدونه لا يمكن إبلاغ الرسائل السياسية على نطاق واسع بالشكل الفعال والمأمول، فضلا عن كونه أداة للتفاعل المتبادل وجزء أصيل من تشكيل السياسة الخارجية للدول وأداتها المثلى.
– ما واقع السياحة المجرية لتونس بعد انتهاء جائحة كورونا؟
– تعتبر السوق المجرية من الأسواق السياحية الهامة والواعدة لتونس نظرا لما توفره الوجهة التونسية من منتوج سياحي متنوع وثري طوال السنة، إضافة إلى القدرة التنافسية العالية للوجهة التونسية التي تمكنت من جذب أكثر من 8 مليون سائح من مختلف دول العالم خلال سنة 2023 من بينهم أكثر من 20 ألف سائح مجري.
– وتعتبر تونس وجهة تقليدية للسائح المجري خلال العقود الأخيرة إلاّ أنّ جائحة كورونا أثرت بشكل ملموس على توافد السياح المجريين بالنسق المعتاد. ومع انحسار هذه الجائحة بدأ القطاع السياحي في استعادة عافيته وسجلّت سنة 2023 انتعاشة حقيقية وعودة تدريجية للسياح المجريين إلى السوق التونسية عبر رحلات جوية مباشرة من بودابست في اتجاه كبرى المناطق السياحية التونسية انطلقت من شهر ماي وتواصلت إلى غاية شهر نوفمبر. ويؤمّل من خلال الجهود التي يبذلها مكتب الديوان الوطني التونسي للسياحة في بودابست أن تستعيد الوجهة التونسية بنسق سريع خلال السنوات القليلة القادمة السائحين المجريين لتتجاوز المعدلات القياسية التي تحققت في السابق والتي وصلت أكثر من 80 ألف سائح مجري.
– ما الكلمة التي توجهونها للجالية التونسية والعربية في المجر؟
– أتمنى لكافة أفراد الجالية التونسية ومعها الجالية العربية طيب الإقامة في المجر وتحقيق كلّ ما يصبون إليه وأنا على ثقة تامة بأنّ دورهم أساسي ومهم في نقل صورة مشرقة عن تونس وعن كلّ الأقطار العربية لأنهم يمثلون السفراء الحقيقيين لبلدانهم.
– نتطلع إلى دور فاعل للجالية التونسية والعربية على حدّ سواء للمساهمة كلّ من موقعه في التعريف بثراء المخزون الثقافي والحضاري العربي ومساهمته في إثراء الحضارة الإنسانية ولكسر الصورة النمطية عن العرب والمسلمين.
رئيس التحرير
د. عبدالمنعم قدورة