بموافقة البرلمان الألماني على تولي الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتز منصب المستشار وإقرار الحكومة الجديدة المكونة من حزبه وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر، انتهى عصر أنجيلا ميركل في السياسة الألمانية والأوروبية.
في 2018، أعلنت ميركل تخليها عن رئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي وعزمها عدم الترشح مجددا لمنصب المستشارية حين تنتهي الدورة البرلمانية في 2021.
المستشارة الحديدية التي حكمت قاطرة الاتحاد الأوروبي منذ 2005 ونجحت في تجاوز العديد من الأزمات العاصفة كالأزمة المالية في 2008 بتداعياتها الكارثية على العديد من البلدان الأوروبية والخروج البريطاني من عضوية الاتحاد وصعود اليمين الشعبوي في شرق ووسط وشمال وجنوب القارة العجوز، هذه السيدة لم تعلن خطة انسحابها المنظم من السياسة الألمانية والأوروبية إلا بعد أن توالت الإخفاقات الانتخابية لحزبها المسيحي الديمقراطي خلال السنوات القليلة الماضية. بين 2016 و2018، أضحت معدلات التأييد الشعبي للمسيحيين الديمقراطيين، إن على مستوى الولايات (16 ولاية) أو على المستوى الفيدرالي، تتراوح حول 30 بالمائة من أصوات الناخبين بعد أن كانت حول 40 بالمائة قبل 2016.
وتزايدت مصاعب ميركل مع التراجع الأكثر حدية لشعبية شريكها في الحكم، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بين 2016 و2018. في تلك السنوات، لم يكن الاشتراكيون الديمقراطيون أصحاب التاريخ السياسي الطويل بقادرين على حصد ما يتجاوز حاجز الـ20 بالمائة من أصوات الناخبين على مستوى الولايات، بل تقهقروا في بعض الولايات إلى نسب تدور حول 10 بالمائة تاركين حزب تقدمي كالخضر وأحزاب يمينية محافظة تتخطاهم وتحيلهم إلى وضعية الحزب الصغير. وقد فسر توالي الإخفاقات الانتخابية للمسيحي الديمقراطي وللاشتراكيين الديمقراطيين على أنه دليل تراجع الرضاء الشعبي عن سياسات ميركل، ولم يكن في ذلك التفسير ما يجافي المنطق أو الحقيقة.
بين 2016 و2018، اعتاش اليمين المتطرف على تراجع شعبية أنجيلا ميركل وإخفاقات حزبها مثلما استفاد حزب الخضر من تراجع الاشتراكيين الديمقراطيين. من طالع المشهد الحزبي آنذاك في ألمانيا، أدرك أن خروج المسيحي الديمقراطي من أزمته تطلب استعادة من هجروه من ناخبين بتغيير السياسات التقدمية التي طبقتها ميركل. فألمانيا الغنية لا تختلف كثيرا عن غيرها من البلدان الأوروبية لجهة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والحضور المؤثر للمشاعر الشعبوية الرافضة للأجانب وللاجئين والراغبة في العودة إلى ممارسات اجتماعية وبيئية رجعية.
كانت تلك هي خلفيات إعلان المستشارة أنجيلا ميركل انسحابها المنظم من السياسة في 2018، وكانت تلك هي تحديات الديمقراطية الألمانية حين هدد استقرارها اليمين المتطرف. ثم كان أن ضربت جائحة كوفيد-19 العالم وغيرت حسابات الحكومات وتقييمات الشعوب. في شتاء 2020، تحركت حكومة ميركل المكونة من الحزبين المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي للتعاطي مع آثار الجائحة وأعلنت عن حزمة من القرارات والإجراءات لتأمين نظم الرعاية الصحية وتقديم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية للقطاعات السكانية المتضررة من الجائحة وكذلك لضمان استقرار سوق العمل وتمكين أصحاب الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة من مقاومة الركود الاقتصادي الذي أحدثه توقف الحياة العامة. وظفت ميركل آنذاك المتبقي من ثقة شعبية بها لمخاطبة الرأي العام بشفافية كاملة بشأن آثار الجائحة واحتياج حكومتها لتضامن المجتمع معها للسيطرة على معدلات الإصابات والوفيات وللحد من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية.
ستظل المستشارة الحديدية رمزا للصعود السياسي للمرأة في ألمانيا وأوروبا، وستظل مسيرتها صعودا وهبوطا تجسيدا لتحديات وتناقضات السياسة الألمانية والأوروبية التي تبحث تارة عن الدولة القوية الحانية وتخشى تارة أخرى الممارسات والقرارات الإنسانية وسط استسلام الناس للمشاعر الشعبوية.