حاولت الدانوب الأزرق منذ صدورها أن تعرض جوانب من الثقافة العربية وجوانب من الثقافة المجرية اتساقاً مع القناعة أن الثقافة مسرى إنساني يؤلف بين الشعوب ويعزز قيم التفاهم والتواصل الإنساني.
وفي سانحة العدد الحالي الذي يحمل رقم 70. أرتأينا إعادة تسليط الضوء على بعض الجوانب الثقافية التي كتبنا عنها متمثلين بالقول الدارج أن في الإعادة إفادة. متطلعين أن تسعف هذه الموضوعات المهتمين والراغبين في فهم نسيج المجتمع المجري في الوصول الى فهم أعمق لحركية هذا المجتمع وتجلياته الفكرية والثقافية.
شاندور ماراييه أديب ومفكّر مجري، التأمت في شخصه مجموعة من المواهب الفنيّة والإبداعية، التي تفرّقت في غيره من كتّاب أوروبا، حتى صار يصحّ أن يطلق عليه ذلك التعبير الشعري الشهير عندنا: مفرد بصيغة الجمع. فالرجل كتب في مجموعة هائلة من فنون القول الأدبيّ، مؤلفات صارت اليوم علامات فارقة في تاريخ الأدب الأوروبي المعاصر، منها الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح، الى جانب الكتابة المقالية في السياسة والفكر الفلسفي والمتابعة النقدية الثقافية، زيادة على أدب الرحلة والأسفار، والمذكّرات الخاصة، والكتابة الفلسفية ذات الطّابع الشذري، وغيرها.
ولد شاندور ماراييه بمدينة كاسا Kassa بتاريخ: 11 أبريل 1900، في كنف أسرة بورجوازية صغيرة متعلّمة، إذ كان والده جيزا جروشميت Gezà Grosschmid رجل قانون مرموق يشتغل موثقا في المدينة، بينما كانت أمّه مارجيت راتكوفشكي Margit Ratkovszky تعمل أستاذة في ثانوية للبنات. ولما بلغ الطفل شاندور سنّ التمدرس القانونية، جلب له والداه مجموعة من المدرّسين، الذين سهروا على تأديبه وتلقينه مجموعة من المعارف الأساسية، لينتقل بعد ذلك الى المرحلة الثانوية التي قضاها في مجموعة من الثانويات، بحكم طابعه المشاكس والمتمرّد، فيحصل في سنة 1918 على شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة). وفي هذه السنّ المبكرة، بدأ ماراييه مساره الأدبي بإصدار باكورة شعرية، لكنّه سرعان ما انشدّ الى العمل الصّحفي، فشارك بعد سنة على ذلك في الكتابة ضمن جريدة، كانت تحسب على الحركة الشيوعية التي قادت تجربة «جمهورية المجالس الهنغارية» سنة 1919، وهي التجربة السياسية الثورية التي سرعان ما دُحِرتْ في المهد بعد ثلاثة أشهر على قيامها، ليقوم على أنقاضها نظام حكم قمعي، تحالف فيه الملكيون المحافظون مع عتاة الاقطاعيين الفاسدين. وعلى إثر الحملات الانتقامية التعسّفية التي سادت البلاد آنئذ، سرى خوف شديد بين أفراد أسرة ماراييه بشأن مستقبل الابن الواعد شاندور، فاضطر الأب الى إقناع ابنه بضرورة الابتعاد عن البلاد الى حين عودة الهدوء والاستقرار مجدّدا. وبناء على ذلك، هاجر شاندور ماراييه الى ألمانيا لدراسة الصحافة والفلسفة، وهناك تنقل بين ليبزغ وفرانكفورت وبرلين، وعاش حياة الهجرة والكفاف، مكتفيا بما كان يبعث به إليه والده بين الفينة والأخرى، وبما يتلقاه مقابل مساهمته في الكتابة ضمن مجموعة من الصحف الهنغارية منها والألمانية. وأثناء مقامه ببرلين، التقى شاندور ماراييه صدفة سنة 1922، بمواطنته إلونا ماتزنير Ilona Matzner الملقبة بـ«لولا» ذات الأصول اليهودية، وهي شابة كان شاندور على سابق معرفة بها في كاسا Kassa مسقط رأسه، فتزوج منها سنة 1925، ثم انطلق الزوجان للاستقرار سوية بفرنسا. وخلال إقامته بباريس التي دامت خمس سنوات، تردّد ماراييه على مجموعة كبيرة من الكتّاب والفنّانين الذين سحرتهم مدينة الأنوار وقتها، وجعلوها مركز إلهامهم وأنشطتهم. كما انخرط شاندور ماراييه أيضا وهو بباريس، في تجربة الكتابة الصحفية من جديد، فعمل مراسلا رسميا لصحيفة ألمانية ذات توجه ليبرالي، ونجح بأسلوب كتابته المتميز في جلب أنظار القرّاء الى قلمه، حدّ أنه صار من بين أهم الأسماء الوازنة في تلك الصحيفة. لكن، ومع تمرّس شاندور ماراييه الكبير باللسان الألماني، فإنّه اختار أن يكتب الأدب بلغته الأم فقط، وهو الاختيار الذي ظلّ يتمسّك به طيلة حياته، رغم قدرته على التصرّف في عدّة لغات أجنبية نطقا وكتابة، وخلال فترة عيشه خارج هنغاريا لعدّة عقود.
بعد مرحلة الاستقرار المؤقتة بفرنسا، عاد الزوجان الى وطنهما سنة 1928، رغم الأوضاع السياسية الخانقة التي كانت تسود البلاد وقتها، بغية الانكباب على الكتابة والتأليف، وهي المرحلة التي قدّم فيها الكاتب الشابّ مجموعة كبيرة من المؤلفات الأدبيّة، بإيقاع سريع بلغ نسبة أربع روايات في السنة. وقد لقيت نصوصه الروائية نجاحا كبيرا على إثر صدورها، لكونها تميّزت بأسلوب واقعي نقدي واضح للمجتمع البورجوازي، وانضبطت لبناء حداثي محكم وغير مسبوق، الى جانب سلاستها الأسلوبية المشبعة بالعذوبة؛ ويتعلق الأمر هنا بالروايات التالية: الحبّ الأول 1928، الثائرون 1930، الغرباء 1931، كلب مميّز 1932، الغريبة 1934، اعترافات بورجوازي 1934، طلاق ببودا 1935، دورية في الغرب 1936، الحاسدون 1937، ميراث إستير 1939. وبالموازاة مع كتابته الإبداعية، تولى شاندور ماراييه في هذه الفترة المفعمة بفتوة الشباب، نشر متابعات نقدية كان يرصد فيها وقائع الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية في المجر، عن طريق مقالات ظلّ ينشرها في أهم الصحف الوطنية، إضافة الى ترجمته لبعض الأعمال الأدبية العالمية، وعلى رأسها كتابات كافكا.
لكن، إذا كان شاندور ماراييه قد استعذب حلاوة النجاح في هذه الفترة، فإنه ذاق أيضا خلالها مرارة الألم وحنظل المعاناة، بسبب تكالب ثلّة من المآسي والأحداث عليه، سواء منها ما ارتبط مباشرة بشخصه وعائلته، أو ما ظلّ يمتّ منها بصلة وثيقة ببلده هنغاريا. ففي سنة 1934، توقف قلب والده تماما عن النبض، ليترك قلب الابن يعتصره ألم الفقد الممض، بفعل العلاقة الحميمة التي ظلت تربط بين الأب وابنه على مدى عقود. وفي سنة 1939، يفقد الكاتب ابنه الوحيد كرستوف، وهو ما زال حديث العهد بالولادة (في أسبوعه السادس!)، فيعوض هذا الفقد الذريع بتبنّيه طفلا متشردّا يتيم الأبوين يسمّى جانوس/يانوس Janos.
وإلى جانب هذا المصير المأساوي، فإنّ شاندور ماراييه تفاعل بشكل كبير أيضا مع ما عاشته هنغاريا من قلاقل عنيفة، كانت بمثابة الاضطرابات التي تترجم لطبيعة الأحداث العصيبة، التي ما فتئت تهزّ منطقة أوروبا الوسطى Mitteleuropa بعنف، وتهيّؤ دولا عديدة منها لخوض الحرب العالمية الثانية، مع ألمانيا النازية أو ضدّها. لذلك، عاش الكاتب هذه الأجواء العصيبة بمطلق كيانه الرّوحي والوجداني، حتى عُدّ شاهدا على نهاية عهد قديم، ولّى وانقضى مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية تشكّل عالم جديد ينذر بالآفات والكوارث، مع بداية العشرين. فقد اعتبر ماراييه، بناء على قناعته الليبرالية الخالصة، تحالف نظام بلده المحافظ بزعامة ميكلوس هورثي مع النظامين الفاشستي بإيطاليا والنازي بألمانيا، خيانة لا تغتفر للمبادئ والمُثل الليبرالية العليا، التي كانت تؤمن بها طبقته الاجتماعية: البورجوازية الهنغارية. ونتيجة لذلك، اتخذ موقف «الهجرة الى الداخل» مثلما سمّاه، وهو الانقطاع عن الحياة العامة أثناء نشوب الحرب العالمية الثانية، وعدم الانخراط في أي نشاط سياسي أو ثقافي رسمي، وتكريس الوقت والجهد الفكري كله للإنتاج الأدبي. فأنجز شاندور ماراييه في هذه الحقبة الملتهبة بعض الروايات المهمة، منها: محادثة بولزانو 1942، النورس 1943، والجمر (1942)؛ هذه الأخيرة التي تعدّ اليوم، من بين أشهر رواياته في أوروبا على الإطلاق، وأكثرها مبيعا bestseller.
وفي الوقت الذي أخذت فيه الجيوش السّوفييتية تزحف على بودابست شرقا، للتصدّي لجيوش النازية التي قدمت من الغرب، غادر شاندور ماراييه بيته بالعاصمة، للإقامة ببيت الأسرة الريفي الواقع على بعد بضعة كيلومترات من بودابست، هربا ممّا شاهده من فظاعات وأهوال طالت أبناء الوطن، خاصة الليبراليين والتقدّميين واليهود أشباه زوجته «لولا». وفي حمأة تلك اللحظات التي ترافقت مع تقدّم الجيش السّوفييتي لتحرير المدينة، وتخليصها من فلول النّازية، واصل ماراييه الانكباب على الكتابة كخلاص فردي، فألّف رواية جديدة في ظرف وجيز، شهدت على تلك الأحداث العنيفة من تاريخ العاصمة بعنوان: تحرير (1945)، وصف فيها بدقة متناهية بشاعات الحرب وشناعتها، والدمار المهول الذي خلّفته في النفوس والعمران، إضافة الى ساعات الانتظار والترقب المملّة التي عاشها الناس في الأقبية والأنفاق؛ كما أعلن فيها عن موت النزعة الإنسانية l’Humanisme في العالم الجديد، واستبطن موقف الريبة والتوجّس من شعار «التحرير» الذي رفعته جحافل الجيش الأحمر، والشكّ في إمكانية أن تستخلص الإنسانية الدروس والعِبَر من الحروب التي عاشتها، ومما ترافق معها من جرائم بشعة ومذابح رهيبة.
وبعد أن حطّت الحرب أوزارها، عاد شاندور ماراييه الى العاصمة بودابست المحرّرة، فوجدها يبابا وخرابا، ما زاد في نفسه الرغبة في الانخراط ضمن ورش البناء والتهيئة لحياة المدينة والدولة من جديد، فلقي على إثر ذلك الموقف ترحيبا كبيرا من لدن القائمين على تدبير الشأن العام، فعيّنته سلطة البلاد الجديدة سكرتيرا عاما لاتحاد كُتّاب هنغاريا (1945)، ثمّ عضوا في أكاديمية العلوم (1947). لكن شاندور ماراييه لمس أثناء احتكاكه بممثلي الإنتيلجنسيا الهنغارية الجدد، بأنّ المبادئ والقيم الديمقراطية التي ظل يؤمن بها، ما عاد لها موقع يذكر في الجمهورية الفتية، التي شرعت تتدرج شيئا فشيئا في اتجاه تثبيت صرح النظام الاشتراكي، مستعينة في ذلك بكافة الطرائق والسبل المتاحة لأفرادها، بما في ذلك القسوة وأعمال العنف. لذا، لم يفاجأ شاندور ماراييه مطلقا بالصّفة التي نعتته بها صحافة اليسار، حين أطلقت عليه لقب «كاتب بورجوازي»، ولا بما تعرّض له من نقد لاذع من قِبل المفكّر الماركسي جورج لوكاتشG. Lukàcs، الذي غدا المنظّر الأيديولوجي للنظام الجديد.
ونتيجة لهذا التحامل كلّه، هوجمت كتب ماراييه بقسوة، وتمّت مصادرتها من المكتبات والأسواق، فاضطر الى مغادرة البلاد سنة 1948، وهو يشعر بخوف يتنازعه الإحساس بالانعتاق والحرية. كتب يحكي عن هذه الفترة العصيبة من حياته، قائلا: «لأول مرة في حياتي، شعرت بإحساس رهيب بالخوف. لقد استوعبت بأني حرّ، فهجم عليّ خوف شديد». وبمغادرة البلاد، منعت كتبه من الطبع بصفة نهائيّة، ليسقط اسمه في دائرة النسيان المبيّت، وتظلّ الحال على ما هي عليه في البلاد، الى غاية سقوط جدار برلين سنة 1989.
وبعد بضعة أسابيع قضاها في سويسرا لترتيب أموره، شدّ ماراييه الرّحال الى إيطاليا، وهناك ساهم في إعداد مجموعة من الفقرات الإذاعية بإذاعة أوروبا الحرّة، التي كانت تبث من ميونيخ إبان مرحلة الحرب الباردة. وفي سنة 1952، قرر الرحيل باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، للإقامة بنيويورك الى غاية 1967، بدافع الحرص على مصير ابنه بالتبنّي جانوس. لكنه عاد مرة أخرى الى إيطاليا للاستقرار بها، الى غاية 1980. ونتيجة لمشاكل صحية طارئة على زوجته، غادر ماراييه إيطاليا مرة أخرى في اتجاه الولايات المتحدة، للاستقرار نهائيا بسان دييغو في ولاية كاليفورنيا، بالقرب من إقامة جانوس Janos. لكنّ حياة العزلة والمنفى ستشتد وطأة على ماراييه، بعد أن تصاب زوجته «لولا» بالعمى، وتفقد حياتها بعد ذلك، نتيجة داء عضال ألمّ بها سنة 1986، والتحاق الابن بها كذلك، وهو في سنّ السادسة والأربعين من عمره. كلّ هذا سيدفع بماراييه الى الدخول في دوامة من اليأس والإحباط الكاسفة، ما سيجرّه في النهاية الى الإقدام على الانتحار بسان دييغو، يوم 22 فبراير 1989.
وقد ظلّ شاندور ماراييه خلال فترة منفاه التي امتدّت لأكثر من أربعة عقود، يواصل الكتابة بهمّة عالية ومثابرة، فألّف في مجموعة من الأجناس الأدبية منها الشعر والمسرح والقصة القصيرة والمذكرات وأدب الرحلة، ثمّ أضاف الى ريبرتواره الروائي مجموعة أخرى من الروايات، أهمّها: سلاما إيطاكا (1952)، ومعجزة سان جينارو 1965، ليلة المحرقة 1971، ثمّ حالات زواج مسيخة (1980). لكنّ جلّ هذه الكتابات بقيت للأسف لا تتداول إلا ضمن دائرة من قراءة ضيقة، بسبب لغتها الأصلية التي هي المجرية، ولأنّ دور النشر الهنغارية التي نشرتها في المنفى، لم تكن سوى مؤسسات صغيرة لم يكن بوسعها التأثير في محيط القراء، سواء بداخل هنغاريا أو خارجها. ثمّ لأنّ ترجمة مؤلفات الرجل الى الإيطالية وغيرها بقيت ضعيفة الأثر، الى غاية تولّي خلية من المترجمين الهنغاريين المقيمين بفرنسا، وعلى رأسهم إيبويا فيراغ Ibolya Viràg، مهمّة ردّ الاعتبار لهرم معاصر من أهرامات الأدب الهنغاري، بدعامة وتزكية من دار النشر الفرنسية ألبان ميشيل Albin Michel. وبهذا الجهد الجماعي النبيل، صارت أعمال شاندور ماراييه تعتبر الآن، جزءا لا يتجزأ من التراث الأدبي الإنساني المتميز في المنتصف الأول من القرن العشرين، وتحظى بفضل ذلك بعناية فائقة أشبه بما تحظى به مؤلفات كلّ من سفيتان زفايغ Stefan Zweig، وجوزيف روث Joseph Roth، وأرثير شنيتزلر Arthur Schnitzler، وسومرت موم Somerset Maugham.
وبكلّ هذا، أمكن لسيرة شاندور ماراييه الأدبية الأصيلة، أن تصبح اليوم نموذجا ناجحا في التعريض بالمستبدّ، والوشاية بأعماله المشينة في حقّ حرية التعبير والتفكير والتحبير، وفرصة تاريخيّة لإكرام حملة القلم والرّيشة، وإنصاف معاركهم في سبيل الإعلاء من شأن المعرفة الإبداعية بكافة مظاهرها، على الرغم ممّا يخططه لهم المستبدّون من حيل ومقالب غاشمة، لإجهاض أحلامهم المسكونة بالرغبة في الحرية والانعتاق، ووأد مشاريعهم التخييليّة المراهنة على بدائل أفسح من دائرة الأيديولوجيا الضيّقة، حين يتربّصون بتلك المواهب والبصائر النافذة، ولا يدخرون جهدا ولا سبيلا للجثم على صدورها، وكبس أنفاسها وأصواتها الحرّة، من خلال مخططات رهيبة تحاول إرغام هؤلاء «المارقين» عن السياسة الرّسمية للحزب أو الأمّة/القبيلة، على تجرّع الموت المادي أو الرمزي الذي يبدأ بمصادرة المؤلفات، والزجّ بأصحابها الى غياهب السّجون، أو نفيهم خارج دائرة الأهل والأوطان، مع خلع الجنسيات أحيانا عنهم، بدعوى ارتكابهم «الخيانة العظمى».
إقتباس من مجلة نزوى العدد 102 – 2020 ميلادي