بالكاد مر شهر على اقتراح وزيرة الخارجية البلجيكية حاجة لحبيب، الجزائرية الأصل، حرمان المجر من حقوق التصويت في الاتحاد الأوروبي، لاتخاذها “موقف العرقلة واستعمال حق الفيتو” بشكل متزايد، حتى جاء دورها لتتسلم الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي من 1 تموز (يوليو) وحتى نهاية العام. وسيتيح لها ذلك أن تنظم أعمال المجلس، المؤلف من زعماء الدول الأعضاء الـ27، وتمثله في التفاوض مع البرلمان والمفوضية الأوروبيين والجهاز التنفيذي في الاتحاد. إلا أن أهم ما ينبغي أن تؤديه بوصفها “الرئيسة” هو مهمة “الوسيط النزيه” بين الأعضاء، والتعامل مع الجميع بموضوعية وحياد كاملين. فهل تستطيع دولة “الرفض” أن تقوم بهذا الدور؟
إنها غير قادرة على ذلك، في رأي كثيرين في طليعتهم البرلمان الأوروبي. فقد مرّر العام الماضي قراراً تساءل فيه “كيف يمكن لهنغاريا أن تؤدي هذه المهمة بشكل مقنع في 2024 نظراً إلى عدم التزامها قانون الاتحاد الأوروبي؟”. لم يكن لاحتجاج المؤسسة الأضعف ضمن الاتحاد صدى يذكر، وإن سلّط الضوء على أن إسناد الرئاسة إلى المجر يشبه محاكمة وُضع فيها المذنب على كرسي القاضي.
وأُثيرت تساؤلات حول إمكان استغلال رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان موقعه على رأس المجلس لخدمة أهدافه الأوروبية. وهو يواصل جهوده لتقريب وجهات النظر المتباعدة في أوساط اليمينيين المتطرفين لأنه يعتبر نفسه “كبيرهم”، مع أن محاولاته هذه لم تلقَ الكثير من النجاح. ولا يستبعد أن تساعده “الرئاسة” على المثابرة بزخم أكبر.
ولا تتوقف طموحاته وولاءاته عند حدود القارة، كما يدل تبنيه شعار “اجعلوا أوروبا عظيمة من جديد” الذي تعلمه من دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق، عنواناً للرئاسة الهنغارية الدورية. ولا شك بأن الأخير سيقدر هذه اللفتة من حليفه على أنها دليل آخر إلى عظمته على المستوى العالمي! وإذا عاد إلى البيت الأبيض ولو قبيل انتهاء رئاسة بودابست الدورية للاتحاد، فلربما استطاع هذا الحليف أن يجني بعض المكاسب بما يعزز سطوة اليمين المتطرف في القارة.
كان رئيس الوزراء المجري سبّاقاً بين نظرائه الأوروبيين إلى تأييد حملة ترامب الانتخابية في 2016، وأخذت علاقاتهما تتعزز منذئذ. ولم تتأثر حين خلط ترامب بين “الرائع” أوربان، على حد تعبيره، ورجب طيب أردوغان، العام الماضي، حينما ذكر اسمه وتابع: “على الأغلب واحد من أقوى الزعماء في أنحاء العالم. إنه زعيم تركيا”.
وصرح الزعيم المجري مراراً أنه ينتظر على أحر من الجمر عودة ترامب إلى البيت الأبيض لأنه “سيجلب لنا السلام”، في إشارة صريحة إلى القتال في أوكرانيا الذي يزعمان أنهما يعارضان استمراره باعتبارهما من دعاة السلام ولا يؤيدان الحرب!
وليتهما يقولان ذلك لصديقهما الحميم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي. والأخير رفض التباحث بشأن احترام تل أبيب التزاماتها في مجال حقوق الإنسان مع الاتحاد الأوروبي، قبل انطلاق الرئاسة المجرية!
وثمة ما يوحي بأن واشنطن ضاقت ذرعاً بـ”ثرثرات” شعبوي عتيق وقررت معاقبته على تدخله الصريح في الانتخابات الأميركية. فقد خرج سفير واشنطن لدى بودابست ديفيد بريسمان الأحد الماضي في مسيرة “برايد” للمثليين الهنغاريين مندداً بـ”آلية الخوف” التي يستعملها أوربان ضد المجتمع المثلي هناك. وكان ترامب قد أعرب في 2019 عن تقديره لبطش حليفه بالمثليين.
ومعلوم أنهما متفقان أيضاً بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا. مع ذلك، قال وزير الشؤون الأوروبية المجرية يانوس بوكا في سياق إعلانه رسمياً أجندة الرئيسة الجديدة للمجلس، إنها تعتزم تنشيط إجراءات انضمام كييف إلى جانب مولدوفا وجورجيا، إلى الاتحاد الأوروبي. لكن بودابست استبعدت سلفاً، في وقت سابق، إحراز تقدم ملموس مع كييف خلال الرئاسة المجرية على رغم فتح باب المفاوضات. وعليه، يبدو أن بودابست استبدلت بمحاولة إبطاء عملية انضمام كييف إلى الاتحاد سياسة ممانعتها، لأن الرفض لم يعد ممكناً. وأشار بوكا إلى رغبة بلاده بتشجيع مفاوضات الانضمام مع دول صديقة لبلاده مثل صربيا ومونتينيغرو. والمفاجئ أن بودابست وعدت بدفع عملية توسعة الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، فهي كانت من الدول التي تشبثت بمعارضتها لخطوة من هذا النوع.
وأوضح الوزير بوكا أن بودابست ستسعى إلى توفير “حماية أكثر فعالية للحدود الخارجية، ومعالجة جذور [أزمة] الهجرة وتحسين سياسة إعادة المهاجرين [وجعلها] أكثر فعالية”. وهنا يكمن سر القلق في قطاعات شتى.
والغريب أن دولة انتهكت القانون لجهة تعاطيها مع المهاجرين، صارت تقود سياسات الاتحاد الأوروبي للتعاطي معهم. فقد فرضت عليها المحكمة الأوروبية غرامة قدرها 200 مليون يورو (نحو 216 مليون دولار) في 13 حزيران (يونيو) الجاري بسبب القيود غير المشروعة “التي تفرضها على حق اللجوء” وفشلها في “الوفاء بالتزامات، ما يشكل انتهاكاً غير مسبوق وخطير واستثنائي لقانون الاتحاد الأوروبي”!
والشق الآخر في السياسات التي تعتزم المجر وضعها موضع التطبيق خلال رئاستها طبقاً لبوكا يتركز على “حماية الزراعة”. وتعتبر هذه بمثابة الشيفرة لضرب السياسات الخضراء وعرقلة الإجراءات الرامية إلى تصفير الانبعاثات الكربونية، وهذه أهداف ثابتة لليمين المتطرف.
يخوض أوربان معاركه الحامية بشراسة أولاً ثم لا يلبث أن يتراجع للنجاة بجلده من حريق كان قد ساهم بحماسة في إضرامه. ينتقد خصومه بصخب كبير، على الملأ، لكنه يكون أشد هدوءاً وحكمة وراء الأبواب المغلقة، كما يقول العارفون. ويبالغ في اختيار أهدافه التي تكون أكبر منه. لذا قلما انتصر.
لكن إذا فاز رفاقه الفرنسيون في الاستفتاء الوشيك، قد تشهد رئاسة المجر للمجلس انتزاع زعيمها وشركاؤه مزيداً من النفوذ في الاتحاد الأوروبي كما يطالبون منذ حققوا انتصاراتهم الانتخابية الأخيرة. وسيدرك عندها المهاجرون كم كان حظهم عاثراً هم والبيئة والاتحاد الأوروبي والديموقراطية…!
النهار العربي – بيروت – 28 يونيو 2024