تقدير لدور الثقافة والإعلام في المسار الدبلوماسي
أسئلة عدة تراود الشعور في الدرب للقاء سعادة السفير صديق محمد عبدالله
سفير جمهورية السودان في المجر، يكلل هذا الشعور اليقين الراسخ في الوجدان بأن السودانيين شعب معطاء يكتنز الشكيمة وعشق الأرض والسحنة الهادئة العميقة و أن محنته الراهنة سيتخطاها بفضل ذلك التواشج بين جيشه وشعبه.
اللقاء مع السفير صديق عبدالله حمل أكثر من عنوان بيد أنه في سياقه العام حديث العارف الواثق المتجذر وطنية وإعتزازاً بالإنتماء القومي بحيث تأتي على الخاطر كلمات رائد الرواية السودانية المعاصر الطيب صالح (حين أعانق جدي أحس بالغنى كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه… إنه شجيرات السيّال في صحاري السودان سميكة اللحى حادة الأشواك، تقهر الموت، لأنها لاتسرف في الحياة).
كان اللقاء مع السفير مفيداً للتعرف على نمط دبلوماسي عربي يجمع بين تواضع العالم والإحاطة السياسية والوفاء للمبادئ والقيم والتواصل الإنساني.
وفيما يلي نص الحوار:
هل تعطينا فكرة عن حياتكم العملية؟
– تخرجت من كلية الحقوق (قسم القانون العام والعلوم السياسية) بجامعة الحسن الثاني في المملكة المغربية عام 1985، وخضعت لسلسلة من الاختبارات الكتابية والشفاهية التي أهلتني في يونيو 1986 للانضمام لوزارة الخارجية السودانية.
– ابتعثت للدراسات العليا في معهد الإدارة العامة في باريس عام 1987 ودرست فيه وفي جامعة باريس رقم (1) في ذات الوقت.
– استهليت حياتي العملية في بعثات السودان الدبلوماسية بالعمل في جنيف ثم انتقلت إلى مسقط ومنها إلى جيبوتي .. وبعد فترة عمل في ديوان وزارة الخارجية تم ابتعاثي للعمل بسفارة السودان في واشنطن عام 1998 حيث شاءت الظروف أن أصبح قائماً بالأعمال بالإنابة بسبب سحب السفير السوداني حينها احتجاجاً على قصف الولايات المتحدة لمصنع الشفاء للدواء. عقب ذلك انتقلت للعمل في بعثة السودان الدائمة للأمم المتحدة في نيويورك حيث قضيت أربع سنوات تقريباً ومن ثم عدت لديوان الوزارة، وفي 2005 كلفت برئاسة بعثة السودان في مدريد وعدت منها للخرطوم في 2009.
– رشحت سفيراً لبلادي في فنزويلا عام 2013 واستمرت فترة عملي هناك حتى 2017، وكنت في ذات الفترة سفيراً غير مقيم في كوبا، وإكوادور، وكولومبيا، وسورينام.
– قدمت أوراق اعتمادي سفيراً معتمداً في المجر في أكتوبر 2022 ولا أزال في هذا الموقع.
– لدي اهتمام خاص وانشغال بالقانون الدولي حيث حصلت على زمالة جامعة كولومبيا الأمريكية وأكاديمية لاهاي للقانون الدولي – كما أتابع المسائل ذات الصلة بأمن البحر الأحمر وفض النزاعات ومكافحة الإرهاب.
يجمع السودان والمجر تاريخ مديد كيف تصفون العلاقات بين البلدين؟
– من المثير للاهتمام معرفة أن الروابط التاريخية بين السودان والمجر تعود إلى أوقات مبكرة في القرن السادس عشر حينما فرت جماعة من الجنود المجريين من سيطرة الجيش العثماني وعبرت الحدود المصرية إلى شمال السودان حيث طاب لهم المقام وتصاهروا مع القبائل النوبية هناك وكونوا أسر محترمة سمي المنحدرون منها ب “المجراب” نسبة إلى المجر، أما على صعيد التاريخ الحديث فيعود إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين السودان والمجر إلى أوائل السبعينيات في ظل تبنى البلدين حينها النهج الاشتراكي.
– أستطيع القول إن العلاقات الثنائية بين السودان والمجر ظلت على الدوام مزدهرة وتقوم على تبادل المنافع وعدم التدخل في شؤون أي من البلدين، وهناك محطات مهمة للتعاون في مجالات الزراعة، تنقية المياه، التعليم العالي، الصحة وتطوير البنية الأساسية.
هل تشرحون للقارئ العربي أسباب الحرب الحالية في السودان؟
– ما يحدث في السودان هو نتيجة لتمرد قوات كانت تتبع للجيش ومحاولتها الاستيلاء على الحكم في أبريل 2023، وقد ارتكبت المليشيا المتمردة انتهاكات فظيعة يرقى بعضها للتطهير العرقي وجرائم الحرب وهي لا تتورع في اغتيال المدنيين وانتهاك أعراض النساء واحتلال الأعيان المدنية والمنازل ونهبها وحرقها.. وهي أمور تم توثيقها وإدانتها بواسطة المنظمات الدولية ومنظمات حماية حقوق الإنسان وسيخضع مرتكبوها وقادتها للمحاسبة وفقاً للقانون طال الزمن أم قصر.
– ولا ينبغي أن نغفل أهمية “العامل الخارجي” في تأجيج نيران الصراع وكذا المطامع المعلومة لقوى دولية وإقليمية في خيرات السودان الغني بالموارد الطبيعية من أراضي خصبة تقدر بمئات الملايين من الهكتارات والمياه الجوفية والمعادن وعلى رأسها الذهب الذي يحتل السودان موقعاً متقدماً في انتاجه عالمياً، والحديد والنحاس والتيتانيوم والكوبالت واليورانيوم، بالإضافة إلى طول سواحله البحرية وتنوع مناخه وثروته الحيوانية الهائلة التي تفوق المائتين ألف رأس.
الى أين وصلت جهود السودانيين والأمم المتحدة لإعادة الأمن والاستقرار للسودان؟
– ما فتئت الحكومة السودانية تكرر التزامها بالحل السلمي وإعادة الأمن والاستقرار في البلاد، ولهذا انخرطت باكراً في مفاوضات جدة التي ترعاها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، غير أن المليشيا المتمردة تنصلت من الاتفاق الذي أبرمته في 15 مايو 2023 في جدة، الأمر الذي عطل مسيرة التسوية السياسية وضيع على البلاد وقتاً ثميناً وكلفها خسارات عظيمة في الأرواح والممتلكات. لايزال الأمل يحدونا أن تسفر الجهود المستمرة من الخيرين والفاعلين في المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي عن التوصل لتسوية شاملة تعيد الأمن والاستقرار لربوع البلاد، وفي هذه الأثناء تستمر القوات المسلحة السودانية في أداء واجباتها دفاعاً عن الأرض وتتقدم بخطى ثابتة للقضاء على التمرد.
هل أثرت الأحداث في السودان على ألق الأدب السوداني الذي أحتفل به المثقفون العرب وخاصة أدب الطيب صالح، أمير تاج السر، ليلى أبو العلا؟
– أشكركم على هذا السؤال الرائع الذي يستعيد أمجاد ورموز الأدب السوداني الذي شغل مكانه الرفيع وعلا صيته بين المثقفين والقراء العرب نتيجة لجودة المادة الابداعية المسطرة بأحرف عربية والمتميزة بنكهة سودانية خالصة.
– لا شك أن أوقات الأزمات والحروب “تلهم” المبدعين وتحفزهم للتفاعل مع أحداثها تجاوباً مع الهم العام وتوثيقاً لما يحدث، وقد احتفى المجتمع الأدبي مؤخراً بعدة أعمال روائية مهمة للأستاذة ليلى أبو العلا والأستاذ عبد العزيز بركة ساكن وآخرين من شعراء بلادي المجيدين الذين أبدعوا نظماً شعرياً صادقاً يلامس القلوب ويحرك المشاعر بأحاسيس دفاقة، كما أسهم التشكيليون بلوحات معبرة وشدا المطربون بألحان تعكس معاناة الشعب جراء الأزمة.- عموماً، لا أعتقد أن هذه الأزمة الطارئة ستوثر سلباً على قدرة المبدع السوداني على العطاء الذي عرف به.. أقول هذا ويعتصرني الألم على حرق المتمردين لبعض النفائس من المحفوظات والمكتبات السودانية في حملة تنبئ عن همجية وبربرية وتغافل عن أهمية الإرث الثقافي للبلاد.
كيف ترون دور الدبلوماسية الثقافية والإعلامية في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها المنطقة العربية؟
– إذا كانت الدبلوماسية الرسمية تركز – بالأساس – على التواصل مع حكومات الدول المضيفة، فلا شك أن الثقافة والفنون والاعلام والرياضة لها مسار آخر لا يقل أهمية يستهدف الشعوب وقد يكون أثره أعمق وأكثر تجذراً على مر العصور والأزمان .. ويكفي أن نتابع ما يدور في الجامعات الأمريكية من تظاهرات متضامنة مع غزة وفلسطين لندرك أهمية هذه المسارات غير الرسمية وضرورة توظيفها لخدمة قضايا الأمة.
كيف تصفون أوضاع الجالية السودانية في المجر؟
– يبلغ تعداد الجالية السودانية المقيمة بشكل دائم في العاصمة بودابست والمدن المجرية الأخرى حوالي (100) شخصاً، غالبيتهم من كبار الأطباء والمهندسين الذين درسوا واستقروا بالمجر .. وتعتبر الجالية السودانية بالمجر من الجاليات المتميزة والنوعية وذات الصفة الاجتماعية والثقافية، بعيداً عن الاستقطاب السياسي والجهوي، ويرأسها حالياً د. خالد بشرى محمد عثمان، اختصاصي النساء والتوليد وهو طبيب من الرعيل الأول من السودانيين الذين درسوا واستقروا بالمجر.
– وهناك مكون آخر مهم يتمثل في الطلاب السودانيين في المجر ويقدر عددهم أيضاً بحوالي (100) طالبة وطالب ينخرط جلهم في برامج لنيل درجة الدكتوراة، وينقسمون إلى ثلاث فئات هي: المنح الدراسية المجانية المخصصة للسودان، والنفقة الخاصة، ومنح منظمة الأغذية والزراعة.
– ويتمتع أعضاء الجالية السودانية في المجر بأخلاق رفيعة وعلاقات طيبة فيما بينهم ويبذلون ما في وسعهم لعكس صورة مشرفة عن بلادهم، كما يحرصون على المشاركة في كل الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تنظمها البعثة الدبلوماسية التي تمثل بلادهم.