تاريخ العلاقات السورية المجرية مفعم بالتعاون
نسعى لتوضيح خطورة العقوبات المفروضه على شعبنا
يحمل الحديث مع سعادة السفير بشار سمارة رئيس البعثة الدبلوماسية للجمهورية العربية السورية في المجر أبعاداً عديدة، وذلك لما يحمل تاريخ العلاقات السورية المجرية من علائم تعاون مديد، إضافة الى ما يميز الدبلوماسية السورية من حركية ونزوع نحو الحوار والتفاعل والتواصل.
ولعل موقع سورية ودورها في التاريخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وما تحفل به من تجليات حضارية يجعل أسمها معروفاً لدى قطاع واسع من المجريين الذين يعبرون عن محبتهم وولعهم بالتاريخ السوري ويذكرون بتقدير أسماء العديد من السوريين الذين عرفوهم وقدموا مساهمات في نسيج المجتمع المجري.
كما أن سورية تسكن في يقين العرب وفي أفئدتهم عبر التاريخ فهي كما قال الشاعر أحمد شوقي: وعز الشرق أوله دمشق.
وفيما يلي نص الحوار:
هل تعطينا فكرة عن مسار حياتكم العملية؟
انتسبت لوزارة خارجية الجمهورية العربية السورية أواخر ثمانينات القرن الماضي، وتنقلت في العديد من الإدارات السياسية والفنية إلى أن صدر قرار نقلي للعمل في سفارة سورية في الرياض عام 1992.
خلال هذه المدة غير القصيرة من الالتحاق بالوزارة والى اليوم تعددت المحطات التي نزلت بها في عملي كدبلوماسي يمثل بلاده. وقد تركت بعض الاماكن بصماتها على ولاسيما الرياض وبون والقاهرة التي كانت آخر البعثات التي عملت بها قبل حصولي على لقب سفير عام 2021.
في شهر أيلول من العام 2021 سميت رئيسا للبعثة الدبلوماسية السورية في بودابست، حيث أعيد افتتاح السفارة بعد انقطاع دام حوالي عشر سنوات.
ماأبرز المحطات في العلاقات السورية المجرية التي يمتد جذرها التاريخي إلى عقود؟
العلاقات بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية المجر قديمة ومتجذرة ينظر إليها كمحصلة لسنوات طويلة من التعاون والتمازج في شتى المجالات، أما على الصعيد الدبلوماسي فقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منتصف الستينات.
وتخبرنا كتب التاريخ أن التماس المباشر بين سورية والمجر يعود إلى أيام الحج المسيحي إلى الأراضي المقدسة في القدس حيث حط ملك المجر اشتفان الثاني رحاله في قلعة المرقب عند عودته من القدس وأمر ببناء اول سور للقلعة ليحميها من الهجمات الخارجية وظلت مملكة المجر بمفهومها آنذاك تمول ترميم وصيانة الجدار لفترات طويلة.
وقد شهدت العلاقات بين سورية والمجر ازدهارا وتنوعا، وكان للجانب المجري فضل كبير في انجاز وإرساء القواعد الأساسية للعديد من مشاريع البنى التحتية في سورية حيث ساهم الخبراء المجريون في إنشاء أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية بمدينة حلب وبنوا محطة محردة لإنتاج الطاقة الكهربائية واقاموا العديد من محطات تحلية المياه وتنقية التربة في مناطق الجزيرة والفرات، كما استقبلت المجر دفعات متعددة من المهندسين والتقنيين السوريين الذين وفدوا الى بودابست لمتابعة تحصيلهم العالي والاستزادة من الخبرات المجرية في الكثير من المجالات.
أما التعاون على المستوى الثقافي والعلمي تقدم الجامعات المجرية عددا من المنح الدراسية للطلبة السوريين سنويا في إطار برنامج المنح المسمى Stipendium Hungaricum.
هل تحدثنا عن السمات العامة للجالية السورية في المجر؟
تشكلت النواة الاولى للجالية السورية في المجر من خلال بعض الطلبة الذين حصلوا على منح دراسية في الجامعات المحلية وتزامن ذلك مع وصول بعض المغامرين الباحثين عن فرص جديدة في اوروبا سواء للعمل او الاستقرار من خلال روابط الزواج، او ممارسة التجارة.
هكذا كانت بداية الوجود السوري في المجر، إلا أن الحال تبدل بعد سقوط جدار برلين وحصول التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، حيث برزت البوادر المبكرة للانفتاح وقبول الآخر، فدأبت الجامعات على فتح أبوابها أمام طلبة العلم مقابل استيفاء رسوم مالية، ثم تطور الامر بعد ذلك وازداد اقبال الطلبة على التوجه للمجر بشكل فردي.
استقر كثير من الطلبة الأوائل في المجر و اقترنوا بنساء مجريات وحصلوا على جنسية البلد وأسسوا ما يمكن تسميته (جالية سورية) استقرت النسبة الأكبر منها في بودابست العاصمة بينما توزع الباقون على المدن الرئيسية الاخرى تبعا لوجود الجامعات أو أماكن العمل ولا سيما ديبرتسين، سيغيد، بيتش وجيور.
وعموما تقدر أعداد الجالية السورية بحوالي (2500-3000) فرد وهي جالية صغيرة جدا مقارنة بنظيراتها في دول الجوار كألمانيا والنمسا.
كيف تقيمون جهود علماء الآثار المجريين في ترميم بعض القلاع التاريخية في سورية؟
تقوم بعثة الآثار المجرية بقيادة العالم الدكتور مايور بالاج وفريقه الفني بالعمل على صيانة وترميم العديد من المواقع الاثرية السورية وخاصة قلعة المرقب، وهنا لابد من الاشادة بالجهود الذي يبذلها الدكتور بالاج ومجموعته والذين ظلوا يعملون في هذه المواقع طيلة فترة الحرب الارهابية التي شنت على سورية.
واثر الزلزال المدمر الذي ضرب سورية مطلع العام الفائت بادر الدكتور بالاج وعرض قيامه مع فريقه بمعاينة وتقييم الآثار التي تركها الزلزال على بعض الأوابد في سورية مبديا الاستعداد للعمل على معالجة هذه الآثار وترميمها وفق الإمكانيات المتاحة في نظام عمل بعثته، وقد لقي هذا الأمر الترحيب والثناء من قبل الجانب السوري الذي يكن للدكتور بالاج المحبة والتقدير.
ما الدور الذي تراه في تفعيل الحراك الإعلامي والثقافي العربي في المجر وذلك في السعي لنجاح دبلوماسي مرتجى؟
لا يمكن لاحد يفكر بشكل منطقي ان ينفي أهمية وسائل الاعلام وخاصة في عصر ثورة الاتصالات حيث بات كل فرد في هذا العالم (صحفيا) ان جاز التعبير، وعليه لا يمكن الفصل بين العمل الصحفي ونظيره الدبلوماسي، لانهما باتا قرينان في اللحظة الراهنة.
وتظهر أهمية هذه العلاقة اكثر في بلدان الاغتراب اذ لا بد للصوت الدبلوماسي العربي ان يؤازره صوت اعلامي عربي يفهم لغة بلاد الاغتراب واسلوب مخاطبة شعوب هذه البلاد لأنه الاعرف بطريقة تفكيرهم وكيفية ايصال المعلومة اليهم حتى تلقى قبولا وتصديقا فتغير مفهوما خاطئا او تصححه وتزرع مفاهيم جديدة تخدم الهدف الاسمى وهو الحقيقة، وهذا يرتب على الدبلوماسي مسؤولية كبيرة في التواصل مع وسائل الاعلام وخاصة العربي منها لتكون منبرا لطرح وشرح قضايا الامة واولويات الوطن.
من هذا المنظور نرى وجوبا اهمية تبني اية وسيلة اعلامية عربية تعمل في وسط اغترابي وتسعى لإبراز القيم المشتركة وتعزيز العلاقات ودفعها في كافة المجالات وتدافع عن القضايا العربية المحقة وتخوض معتركا إعلاميا بالغ الصعوبة لتوصل الفكرة وتوضح الصورة التي يعمل كثيرون على تشويهها وطمسها.
وهنا لا بد من الاشادة بمجلة الدانوب الأزرق التي نهضت من جديد لتتابع عملها المخلص في سبيل تعزيز الصورة العربية في بلد كالمجر وإبراز الصفات المتميزة للمجتمع العربي بإمكاناته المادية والفكرية وتسليط الضوء على النوابغ والنخب العربية التي مرت بتاريخ المجر وعاشت بين ظهراني أهله واثرت فيه وتأثرت به، كل هذا تقوم به مجلة الدانوب الازرق، والتي لها الفضل في الاضاءة على شخصيات وقضايا كثيرة كانت طي النسيان فكيف لنا ان نعرف ان الاديب العربي السوري الكبير المرحوم حنا مينه عاش فترة من حياته في المجر وعمل في القسم العربي بالإذاعة المجرية في ستينيات القرن الماضي وفيها كتب روايته الشهيرة “الربيع والخريف” قدم من خلالها وصفا غاية في الروعة عن الحياة الاجتماعية في المجر في تلك الحقبة، وكذلك إضاءتها عن الفنان السوري المبدع بهجت اسكندر الذي وثق على مدى 50 عاما للحياة المجرية في مدينة كيشكميت وهو ابن قرية الزهراء السورية والذي يحتل مكانة لا تضاهى في قلوب اهل المجر كلهم حيث كرمه الرئيس المجري الاسبق السيد ايدر يانوش بجائزة الدولة “كيشوت” التي لم تمنح لأحد غيره قبل ذلك ولا ننسى المهندس الاردني أمجد عبد الفتاح، والطبيب الفلسطيني المتميز نصري العطي وكثير سواهم من الكفاءات العربية ممن عاشوا في المجر او ما زالوا يعيشون فيها.
كيف ترى آليات التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني في العالم لتوضيح خطر الحصار الظالم المفروض على الشعب السوري؟
تقع على عاتق البعثة الدبلوماسية السورية مسؤولية كبيرة في ضرورة وأهمية نقل الصورة الحقيقية لآثار وتبعات العقوبات الاقتصادية والاجراءات القسرية احادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على الشعب السوري والنتائج الكارثية للحصار الاقتصادي والعقوبات اللاشرعية واللاقانونية واللاأخلاقية على حياة المواطنين السوريين.
وتأمل البعثة من خلال النقل الصادق لتداعيات العقوبات ان تستنهض همم مؤسسات المجتمع المدني لإيلاء هذا الامر الهام اولوية تطرح على حكوماتها للسعي الحثيث والمساهمة في جهود رفع العقوبات والمساهمة في إعادة إعمار المنشآت التي دمرتها يد الارهاب الآثمة تمهيدا لعودة المهجرين واللاجئين إلى مناطقهم التي اجبروا على الخروج منها وكذلك تقديم المساعدات للشعب السوري الذي تعرض لظلم واجحاف كبيرين حيث تزامنت العقوبات مع الحرب الارهابية التي تتصدى لها سورية، كما لا يمكن اغفال الآثار الكارثية للزلزال المدمر الذي ضرب سورية يوم 06/02/2023 وتقاعس العالم المتحضر عن تقديم المساعدات للمشردين والجرحى والنازحين قسرا بفعل فقدان بيوتهم ومصادر رزقهم، مما رتب مسؤولية أخلاقية كبيرة على قادة منظمات المجتمع المدني لتنوير القيادات السياسية في بلادها بالأزمة الانسانية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري منذ اكثر من 10 سنوات.
كما يجب علينا الا نغفل استمرار الاحتلال الاسرائيلي للجولان العربي السوري وممارساته القمعية ضد اهلنا في الجولان واعتداءات اسرائيل المتكررة وانتهاكها للسيادة السورية وكذلك ممارسات الاحتلالين الامريكي والتركي وادواتهما ودورهما في نهب الثروات السورية وحرمان الشعب السوري من حقوقه.
ما القواسم المشتركة التي تبدت لكم بين تجليات المجتمعات العربية والمجتمع المجري؟
من خلال وجودنا في المجر لنحو عامين وسعينا لإقامة روابط وثيقة بين بعثتنا والبعثات الدبلوماسية العربية والصديقة، وهذا امر طبيعي، وتوجهنا للتعرف على المجتمع المجري وترميم الصلة التي انقطعت لفترة طويلة، لمسنا اهتماما كبيرا من قبل مختلف أطياف هذا المجتمع ورغبته في التقرب منا والتعامل معنا، وخاصة ممن يستذكر العلاقات التاريخية بين بلدينا والتي لا يمكن ان يمحوها الزمن أو المسائل الطارئة العابرة.
ولعل ما يلفت الأنظار في هذا الإطار هو تفهم المجتمع المجري لمعنى الكفاح ضد الاستعمار والمعاناة التي تفرزها هذه التجربة المريرة حيث ذاق المجريون ويلات الاحتلال وناضلوا وقدموا تضحيات كبيرة بالدم ثمنا للحرية، لذا نجدهم متفهمين عند طرح قضايانا ودفاعنا عن حقوقنا ومطالباتنا بإنهاء كافة أشكال الاحتلال والوجود الأجنبي غير الشرعي التي تعاني منها بلادنا سواء في سورية او فلسطين او لبنان..
المجريون شعب طيب ومسالم يكره العنف والتسلط شأنه شأن الشعب العربي في أقطاره المختلفة كما انهم اناس مثقفون ومطلعون ومتابعون لمجريات الأحداث على جميع الأصعدة، وقد بهرتني معرفتهم التامة بتفاصيل موضوعات سياسية وثقافية نثيرها اثناء حديثنا وكذلك تحليهم بإدراك ومتابعة للتيارات والتوجهات الثقافية على اختلافها مما يدل على الوعي بأهمية المعرفة، وهو شأن نتقاسمه معهم مما يقربنا منهم ويجعل من اليسير تفاهمنا على كثير من الأمور والتوجهات.
د. عبد المنعم قدورة
رئيس التحرير