يعد المستشرق المجري جرمانوس جولا (عبد الكريم جرمانوس) من أكثر المستشرقين المجريين المعروفين لدى قطاع واسع من الوسط الثقافي العربي في المجر والعالم العربي. | ولد عام 1884 في بودابست تعلق وهو طالب في الجامعة بلغات الشرق الأدنى وتابع دراساته بعد عام 1905 في جامعتي استنبول وفيينا وأمضى فترة في لندن حيث عكف على دراسة النصوص التركية القديمة في المتحف البريطاني. عاد عام 1912 إلى بودابست ليدرس تاريخ الفكر الإسلامي، دعاه شاعر الهند رابندرانات طاغور إلى الهند حيث بقي فيها 1929-1932 أستاذا في جامعات دلهي ولاهور وحيدر أباد. هناك نشر کتاب الحركات الحديثة في الإسلام قصد بعدها القاهرة حيث أنهى دراساته في الأزهر ثم قصد مكة المكرمة حاجا وكتب عن حجته كتابا أسماه (الله أكبر) من مؤلفاته (شوامخ الأدب العربي، دراسات في التركيبات اللغوية العربية)، زار السعودية عام 1940 وبعدها دمشق توفي في بودابست بالسابع من نوفمبر عام 1979 تقديم الدانوب الأزرق بحثين كتبهما المستشرق جرمانوس يظهران رؤاه الفكرية ويجسدان التواشج الثقافي العربي المجري عبر التاريخ.
خلافا لسائر الشعوب الغربية، نزحنا معشر المجريين من الشرق، حيث ترتفع الشمس مبكرة في الأفق النقي الصافي، ذلك الشرق الذي رفع لواء أروع الثقافات الأجيال طويلة. لقد انحدر أجدادنا المجريون من شعوب شرقية قديمة، وتلقنوا حضارتهم على أيدي الفرس والأتراك.
وكان المؤرخون العرب أول من أشار إلى وجود شعبنا في التاريخ. كتب ابن دسنة أن المجفرية هم عبدة الينوان). وقد وصفهم (جرديزي) الفارسي بأنهم وثنيون، لقد شرد المجريون من الشرق إلى الغرب، وأخيرا استقروا في بلاد المجر الحالية في سهول الدانوب الخصبة، واعتنقوا المسيحية. اضطروا إلى ذلك اضطرارا.
ففي قلب أوروبا، وفي القرن التاسع الميلادي (الموافق للقرن الثالث الهجري) لم يكن هنالك مفر من شهر المسيحية بيد أن جموعا كبيرة من الشعب متشبعة بالعقيدة الإسلامية حافظت على دينها طبقا لأوامر القرآن الكريم.
وقد أطلق المؤرخون المجريون عليهم اسم الاسماعيليين)، وظن بعض العلماء أنهم فرس نازحون بصحبة المجريين المشتتين واستقروا معهم في تلك البلاد. والواقع أن المجريين الاسماعيليين الإمام السابع لم يكونوا من الفرس، ولم يكونوا من أتباع يحيى اسماعيل الإمام السابع، بل كانوا مجريين صميمين أحناف المذهب، وظلوا حتى القرن الثالث عشر يرسلون الطلبة في بعثات إلى حلب، لكي يتلقوا العلوم الفقهية في جامعها الحنفي الذائع الصيت.
وأقام هؤلاء المجريون المسلمون في مختلف أنحاء البلاد. والأماكن ذات الأسماء العربية الموجودة إلى يومنا هذا، تدل على أن هؤلاء المجريين المسلمين كانت الهم طوائف كبيرة العدد، موفورة الكرامة.. بيد أن الدين الكاثوليكي الروماني ضاق ذرعا بالعقائد الأخرى، فأصدر الملوك المجريون قوانین جائرة ضد المسلمين، فأخذت الحكومة تسومهم شتى صنوف الاضطهاد والتنكيل، لكن الشعب المجري لم يكف عن مد يد المعونة إليهم، كلما وحيثما استطاع إلى ذلك سبيلا. هكذا تسللت الأغاني الشعبية والقصص الشرقية إلى القرى المجرية عن طريق المواطنين المسلمين، وقد أثبت المؤلف الموسيقي (بيلا بارتوك) أن الوزن والعروض في الشعر الشعبي المجري والموضوعات في الأغاني الشعبية المجرية، من أصل شرقي إسلامي.
وقد أفل نجم الإسلام تدريجياً في بلاد المجر على أثر الاضطهادات المتوالية من جانب الكنيسة الكاثوليكية ومن جانب الملوك. ولكن شاءت سخرية القدر أن اضطر الملك أندريا الثاني إلى الالتجاء إلى المسلمين المجريين لكي يضربوا له النقود الفضية التي يحتاج إليها في الحرب الصليبية الخامسة المعلنة ضد الإسلام في بلاد الشام، ذلك لأن المجريين المسلمين ظلوا – بالرغم من الاضطهاد – يزاولون التجارة وأعمال المصارف بنشاط عظيم في البلاد. كان وقت الرحيل أزف، والملك لم يلبس درعه بعد فضرب المسلمون الأتقياء المؤمنون العملة المجرية الجديدة بقالبهم الذي كانوا يعتزون به وظهرت على النقود شهادة (لا إله إلا الله) هكذا ذهب الملك المسيحي ليحارب المسلمين وهو يحمل نقودا نقشت عليها الشهادة. فكم في التاريخ من مفاجآت!!
لم تكف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية باضطهاد الثقافة والعقيدة الإسلاميتين في المجر فحسب، بل حاولت أيضا إبادة الأدب الشعبي المجري الأصيل. فما لبثت الأغاني الآسيوية أن اختفت رويدا رويداء اليحل محلها الأدب المسيحي اللاتيني. ومن البديهي أن الأدب اللاتيني الذي ساد أوروبا خلال القرون الوسطى كان ضعيفا، إذ كان مقصورا على الموضوعات الكثيسية وأساطير القديسين المسيحيين. هذا هو الأدب الذي اكتسح في طريقه الأدب المجري الصميم وما يميزه من قصص رائعة لا تجد لها مثيلا إلا في الأدب الشعبي القديم. كانت الثقافة والعلم وقفا على الأديرة، أما عامة الشعب، فقد حرم من معرفة القراءة والكتابة، ولم يصادف العظاميون والملاك العقاريون حظا أوفر في هذا المضمار. ولا عجب، فقد كان الأدب قليل الشأن في نظر السادة الإقطاعيين الذين وجهوا همهم إلى امتطاء الجياد ومزاولة فنون القتال. كانت المجر جزءا من أوروبا فأصبح حظها من الجهل والأمية مرتبطا بحظ سائر أقطار أوروبا المسيحية. بل إن الشعراء الألمان الفوارس أمثال (ولفرام إيشنباخ) مؤلف ملحمة برسيفال) كانوا أميين فدرجوا على إملاء قصائدهم. وما زالت بعض الأديرة المجرية تفخر بما تحويه من مجموعات المخطوطات النادرة، وفي مقدمتها دير باکوثي بيل، حيث بلغ عدد المخطوطات التسعين. ولكن أين هذا العدد بالنسبة إلى مئات آلاف المخطوطات المدونة والمبوبة في خزائن الكتب بالأندلس الإسلامية، والتي تناولت شتى الموضوعات من علم وشعر وفلسفة؟
لذلك، لا أستطيع أن أقول الكثير عن الأدب المجري في العصور الوسطى. لقد أنتج القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق للقرن السابع الهجري، مرثية نثرية ألقاها قسيس باللغة المجرية، فكانت أول أثر أدبي اكتشف.
بيد أن أسلوبها كان معقدة ركيكة مما حمل على الاعتقاد أن الذي ألقاها لم يكن مجرية.
ثم جاءت بعض الأساطير المسيحية المكتوبة باللغة المجرية فأكملت هذه الصورة. وهذا اللون من الأدب، وإن كان بدائيا. فقد بدا صريحا أصيلا لا تشوبه شائبة المحاكاة والتقليد. ولما كانت اللاتينية هي لغة التعليم الممثلة في أشخاص القساوسة الكاثوليكيين، فلا غرابة إذا عجزت عبقرية الشعب عن الظهور واضحة جلية.
ثم حدث تغيير جوهري بعد معركة الإصلاح. إذ أخذت سلطة الكنيسة تتزعزع من جراء التشكك، أثر المذاهب العلمية التي أخذت تتسرب من الشرق الإسلامي إلى الغرب المسيحي عن طريق الحروب الصليبية. لقد عاد الفوارس من بلاد الشام حاملين معهم تجارب مثيرة للدهشة: أسلحة جديدة، وتحصينات جديدة، وطقوسا جديدة، وآراء جديدة: كالجواد العربي الأصيل، والشعار العربي، والفكرة الإسلامية عن الشجاعة والفروسية، والآثار الأدبية للإسلام العربي، فلولا قصص (ألف ليلة وليلة) لما وجد بوكاتشيو الإيطالي، ولولا أبا العلاء المعري لما استطاع دانتي إنتاج مؤلفاته الرائعة. لقد كان للأندلس القدح المعلى في تقدم العلوم والطب والفلسفة في أوروبا خلال العصور الوسطى، إذ تتلمذت أوروبا بأسرها على جهابذة الحكماء العرب، أمثال ابن سينا وابن رشد وابن باجه. وقد تناول ابن طفيل في كتابه (حي بن يقظان) الموضوعات التي طرفها دانيال دي فو في كتابه (روبنسون کروزو) بعده بزمن بعيد، وعبارة (صودا) في اللغة اللاتينية في القرون الوسطى، بل وحتى في مؤلفات القرن السادس عشر، لا تعني شراب الصودا، بل (الصداع الوارد في کتاب ابن سينا وأسبابه المختلفة.
ابن خلدون أشعل الضوء في أوروبا ونشر مبادئ الحرية
وعندما أخذ مصباح العلم الإسلامي يتأرجح وكاد يخبو، مكتسحة في طريقه أعظم عبقريات الإنسانية، جاء ابن خلدون فأشعل ضوءه في أوروبا، ونشر مبادئ حرية الفكر، وشعار النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رهبان في الإسلام). وكانت صيحته المدوية نذيرا لطغيان الكنيسة، فشجعت ذوي الهمم الوثابة، على تنظيم جماعات حرة أسسها الإيمان المجرد من كل شائبة، جماعات حرة كالجماعات الإسلامية سواء بسواء، تختار وعاظها على أساس دينهم، أي على أساس الكتاب المقدس. وقد أطلق على هذه الحركة الوطنية، وترجمت التوراة إلى اللغات القومية، حتى يستطيع كل فرد أن يفهم دينه على حقيقته. فالشعب الذي ظل في منأى عن دينه من جراء جهله اللغة اللاتينية، أصبح يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه عما يجب أن يؤمن به وعما يمكن ترکه للقساوسة. هكذا استيقظت أوروبا من سباتها العميق، وتفتحت أعينها للعلم، متأخرة مئات السنين عن المسلمين الذين بدؤوا منذ القرن الثامن، يعلمون القرآن الكريم للأطفال في الكتاتيب) وفي المساجد الكبرى، كالأزهر الشريف، وقد نسجت على منواله الجامعات اللاتينية في العصور الوسطى.
كانت حركة الإصلاح استهلالا لعهد جديد في أوروبا ونستطيع أن نؤكد في شجاعة تامة، أن الأدب المجري بدأ وقتئذ. لم تكن الحرب مجرد معارك في ساحة الوغى، بل كانت أيضا معارك كلامية. فقد أخذ البروتستانت والكاثوليك يتساجلون ويتقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان في شدة وعنف، حتى فاق الخطر صليل السيوف. لكن المساجلات أدت إلى نتائج عظيمة الشأن إذ كان النقاش يدور بالمجرية لا باللاتينية. فاللغة التي ظلت غافية في سبات عميق. لا يتحدث بها إلا القرويون، اقتحمت في تيه وفخر أبواب الأدب. وكانت متلعثمة في بادئ الأمر، لكنها ما لبثت أن ارتفعت إلى مستوى البلاغة وقوة البيان، وما حلت نهاية القرن السادس عشر، حتى أنتجت طرائف ما زالت موضع الإعجاب حتى يومنا هذا. وهناك شخصيتان عظيمتان تمثلان هذه النهضة المفاجئة: بالينت بالاشه Balint Balassi الشاعر المحارب، وغاشبار کارولي، مترجم الكتاب المقدس إلى اللغة المجرية.
سجل القرن السادس عشر أفظع كارثة عرفت في تاريخ المجر، فقد أباد العثمانيون الجيش المجري في معركة (موحاج) عام 1526 ثم سقطت عاصمتهم (بودا) في أيدي الأتراك في سنة 1541 ووقعت سهول المجر الداخلية الوسطى تحت الحكم العثماني، بينما ظل الجزء الكائن غربي الدانوب خاضعا لسيادة أسرة هابسبورج. وانقسم شعور الشعب أيضا إلى قسمين. فقد اتجه المجريون الصميمون نحو المسلمين الأتراك، نظرا إلى توجسهم شرا من جانب حكومة هابسبورج الكاثوليكية، فعقدت إمارة ترانسيلفانيا معاهدة مع السلطان. ثم نشبت المعارك الدامية بين جنود الهابسبورج والانكشارية الأتراك في أراضي المجر، فخربت البلاد وأصبحت أثرا بعد عين: دمرت القصور الحصينة وهدمت الجدران المنيعة، وأخذ الأتراك والمجر يتبارزون وجها لوجه مما أدي إلى انهيار الحضارة المجرية، وتمزقها إربة إربا. بيد أن الأيام القاتمة والآلام المبرحة التي عاناها الشعب، قد وجدت منفذا في الأدب. فإلى جانب المناقشات الدينية المملة القائمة من فوق المنابر بين القساوسة الكاثوليكيين والوعاظ البروتستانتيين، سمع صوت الشعب يرتفع عالية. فأنجب من العلوم عبقرية: بالینت بالاشه Balint Balassi الرائعة. كان هذا الكاتب من الفوارس الأشراف، وقد عرف حق المعرفة بين أفراد معسكرات المسلمين الأتراك، حيث تعلم كثيرا من الشعر الشرفي ومن أشعار الغزل التي كتبها باللغة المجرية. وفي ذلك الوقت، حيث سيطر نفوذ القساوسة، كان ينظر لشعر الغزل كأنه رجس من أعمال الشيطان. لكن فيثارة بالاشه ذات النغمات الشجية نفثت فيه الحياة خاصة وأن ذلك الشعر كان مزيجا متناسقا من الثقافتين، اللاتينية والجرمانية موضوعا في قالب شرقي رائع. وقد جمع بالاشه أيضا بين الأسلوب الابتدائي والأسلوب الغنائي. كان صديقا للمسلمين الأتراك وعدوا لأسرة هابسبورج الكاثوليكية فارتد عن دينه أكثر من مرة في معمعة الحروب. لكنه كفر عن ذنوبه بأن مات بطلا مفورة. وقد مر بعدئذ شعر الغزل بفترة رکود امتدت أجيالا، ثم عاد إلى الظهور مطبوعة في القرن التاسع عشر.
بالاشه غرف في وصفه الطبيعة قسمات الأدب الشرقي
كان بالاشه أول شاعر مجري اكتشف جمال الطبيعة وعبر عنها بأوصاف حية. لقد تغنى بالحقول السندسية الخضراء وبالغابة الوارفة، وردد تغريد الطيور في ضوء الشمس الساطعة والنجوم المتألقة. ففي كل هذا، كان بلا مراء تلميذا للأدب الشرقي الذي لا يجاري في الإعجاب بجمال الطبيعة. ونعلم بلا شك أن الشعر العربي أنتج الروائع في وصف الطبيعة.
ترجم غاشبار کارولي Gaspar Karoli الكتاب المقدس إلى اللغة المجرية بعد أن حاول ذلك قبله كثيرون من العلماء البروتستانتيين الذين تعمقوا في دراسة اللغات العبرية والآرامية والعربية واليونانية. فأسلوبه – بالرغم من صعوبته وغرابته على آذاننا الآن – ظل لزمن طويل نموذجا للشعب المتدين الواسع الإدراك، وما زال حتى الآن باقيا في أسلوب الخطابة والكتابة، لدى الأتقياء من الناس. بل ما زال وقع نغماته يثير الخشوع في القلوب بالرغم من تقادم عهده.
وقد أنتج الجدل الديني ثماره في ميادين ما كان ينتظر أن يصل إليها. فشأنه في ذلك شأن المعتزلة في سالف الأزمان. واستطاع الجدل أن يحمل الشعب على بحث الأمور بروية ودقة، والتعمق في معنى الكلام ومبناه، ودراسة الكون وأصله ومسبباته. وكانت حروب الإصلاح معاصرة لنتائج أحد المخترعات التي أدت إلى انقلاب لم يسبق له مثيل في العصور السابقة: ألا وهو آلة الطباعة. كانت مؤلفات (مارتن لوثر) زعيم الإصلاح العظيم، أول كتب طبعت في ألمانيا، وما لبثت الثقافة أن انتشرت سريعا بواسطتها. أصبحت الكتب في متناول الجميع، حتى أفقر طبقات الشعب، نظرا إلى ثمنها الزهيد. ثم جاء اكتشاف البارود، فكان نذيرا بالقضاء على سيطرة الإقطاعيين. إذ صار في إمكان أقل القرويين شأنا أن يقتني بندقية. مما جعل درع الفوارس ضعيف الجدوى في دفع الأذى عنهم. تلك كانت الخطوة الأولى وفي سبيل الشعبية (الديمقراطية).
أما الخطوة الثانية الحاسمة في سبيلها، فكانت اختراع آلة الطباعة. لقد ولى الزمن حيث كانت الأفكار وقفا على القساوسة والأديرة، فاتسع نطاق التفكير حتى شمل النقد والمنطق، وتطور إلى التشكل. ثم جاء دیکارت – أوكاتيزيوس Castesius كما كانوا يسمونه وقتئذ باللاتينية – وتحدى كثير من المتعصبين بعبارته المشهورة: إني أفكر. إذن فأنا موجود. كانت هذه العبارة وهو مذهب العقليين. أخذ المتدينون يتخوفون بادئ ذي بدء من هذه الخطوة الجريئة، ظنا منهم أن مذهب العقلية ما هو إلا دعامة جديدة للدين. فالحقيقة أن هذا المذهب لا يهدم الدين بل يؤيد العقائد الدينية بالبراهين العقلية، كما فعل الحكماء المسلمون ابن رشد وابن باجه وابن خلدون منذ أجيال مضت.
وقد اتخذ البروتستانتيون من مذهب دیکارت سلاحا حادا في كفاحهم، إذ ترجم جون اباتزاي جري فلسفته إلى اللغة المجرية، ثم شهد القرن السابع عشر عودة الكاثوليكية إلى الحياة في المجر. وبعد أن كان انقسام الشعب مقصورا على الشؤون السياسية، انقسم أيضا في الأمور الدينية. فالمجريون في السهول وصغار الملاك – بحكم استقلالهم عن أسرة هابسبورج – استمعوا إلى الوعاظ البروتستانتيين واعتنقوا مذهبهم. والقرويون المقيمون في المجر الغربية – التي لم يحتلها المسلمون الأتراك – اضطروا إلى اتباع دين ملاك الأراضي الموالين لأسرة هابسبورج الكاثوليكية المذهب، وكانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية أيضا من العوامل المسيطرة على تقرير اختيار العقائد الدينية. وجدير بالذكر أن المسلمين الأتراك الذين كانوا مسيطرين على الجزء الأكبر من البلاد، لم يتعرضوا قط لحياة رعيتهم الدينية، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة شعائرهم. بيد أن كثيرين من المجريين اعتنقوا الإسلام مما أدى إلى دخول كلمات تركية عديدة ضمن مفردات اللغة المجرية. وقد ترجمت مؤلفات متعددة من التركية إلى المجرية، وتعلم باشاوات بودا اللغة المجرية متخذين إياها أداة للمكاتبات الرسمية.
كان القرن السابع عشر مطبوعا بطابع المذهب العقلي، ولذلك لم يزدهر الشعر، ولم يجد سبيلا سهلا إلى القلوب. والشاعر المجري الوحيد الذي بزغ نجمه في ذلك العصر هو میکلوش زرينجي Miklos Zrinyi، إذ كتب ملحمة عن حصار الأتراك الحصن دافع عنه جده ولاقى فيه حتفه أمام السلطان سليمان القانوني. كان الشعر الحماسي في حالة انحطاط خلال القرن السابع عشر في أوروبا، فجاء هذا الإنتاج الأدبي المتأخر لأداء غرض خاص، ألا وهو إيقاظ الوعي القومي، ولم يقصد منه الإجادة في الشعر. ورغم ذلك، فقد ظل أثره باقيا ومازالوا ينوهون به ويشيدون بذكره حتى يومنا هذا.
تعتبر نهاية القرن السابع عشر نقطة تحول في تاريخ أوروبا. إذ عقد صلح ويستفالن في سنة 1648 فانتهت حرب الثلاثين سنة، لكن أوروبا لم تستطع أن تتنفس الصعداء إلا بعد مضي أربعين سنة أخرى. لقد أديرت حرب الثلاثين طبقا لخطة الإنهاك، فلم تقرر مصيرها معارك فردية، بل وضعت خطط مؤداها تخريب كل فريق الأراضي الفريق الآخر إلى أن يختنق الفريقان. وقد جاءت النتائج مخيفة مفزعة. إذ تحولت المروج الغناء والحقول الخصبة والغابات الكثيفة، إلى أراضي قاحلبة لا زرع فيها ولا ضرع. وهبط عدد سكان ألمانيا بعد إنهاكها إلى أربعة عشر مليونا. كان من الضروري استئناف النشاط على أسس جديدة، لكن السلام لم يسد بعد.
ذلك لأن الأمراء الألمان الخاضعين لأسرة هابسبورج بعد أن تصالحوا، اشتبكوا معا في حرب ضد الأتراك الذين هددوا فيينا في سنة 1683. وأخيرا هزموا هؤلاء الأمراء هزيمة نكراء ولم تمض سنوات معدودة حتى قذف بهم نهائيا خارج أراضي المجر وصدوا إلى البلقان.
كانت حالة المجر المحررة مدعاة للإشفاق. إذ نزلت بها الكوارث ألوانا، فهاجر بعض سكانها وهلك الآخرون. وإن أردنا تصویر المصير الذي آل إليه أولئك القوم كفانا ذكرا أن المقاطعات المجرية الخصيبة، التي يسكنها الآن مليون من الأنفس في رغد ورخاء، هبط عدد سكانها إلى تسعين أسرة!! وبعد أن ولى الحكم العثماني من البلاد، سارعت أسرة هابسبورج إلى اقتطاع المناطق القاحلة الجرداء لسكان أجانب أكثرهم من الألمان. وقد وهبت مساحات شاسعة إلى بعض المخلصين من الأشراف، فخلقت من جراء ذلك طبقة إقطاعية جديدة. هكذا عاد الشعب فوقع تحت سيطرة كبار الملاك، فتسرب اليأس إلى النفوس أثر الاستعباد السياسي والاقتصادي. كان البروتستانتيون مضطهدين، والشعور الوطني المجري الذي لم يمسه المسلمون قط، قد دهس بالأقدام بأساليب مزرية. وما لبث اليأس أن تحول إلى غضب شمل المجريين والفلاحين والأشراف. فتسلحوا وتحالفوا ضد طغيان أسرة هابسبورج وأعلنوا عليها الكفاح بقيادة إمره توكولي Imre Thokoly ودافونزي في سبيل الحرية السياسية والدينية. وقد وقع الحمل الأكبر من المعركة على عاتق الفلاحين المجريين. ثم قدم لويس الرابع عشر ملك فرنسا – الذي كان يحارب أسرة هابسبورج في الغرب – مساعدة ضئيلة إلى المجريين المتمردين. لكن انهزام الجيوش الفرنسية وعقد صلح أوتریشت غداتها، لم يتركا أملا للمجريين في الاستقلال. ففر توكولي ودافونزي من البلاد، ولجأ إلى الأستانة محتميين بالسلطان.
والزعيمان النبيلان اللذان قادا معركة استقلال المجر الأولى قد أغمضا أعينهما إلى الأبد على أرض إسلامية، حيث أكرم خليفة المسلمين وقادتهما، وقدم لهما العون الأدبي والمادي، وقد رأى رو دوستو Rodosto اللاجئين المجريين على ضفاف بحر مرمرة ينتظرون بفروغ صبر حدوث تغيير سياسي من شأنه أن يعيد الحق إلى نصابه في بلادهما. ومازال الشارع الذي عاش فيه اللاجئان الوطنيان، يحمل اسم شارع المجر (مجار صوفاغجي). ولقد أحاط إخواننا المسلمون في ذلك الوقت هذين اللاجئين بكل إجلال وتکریم، صادرين من قلب مخلص عطوف. ولا غرو، فتلك هي تعاليم الإسلام، ومازال المجريون يحفظون أجمل ذكرى لهذا الصنع الجميل. لقد أرسل بحر مرمرة نسماته الهادئة بعيدا حيث بلغت قلب المجر، إذ خلد كيليمن میكیش Kelemen Makes ذكرى الشرق الإسلامي في رسائله من تركيا) وهي قطع أدبية ينعكس فيها جمال ذلك الشرق الرائع، وهدوءه الجذاب. هذا إلى جانب ما في تلك الرسائل المنثورة من شعور وطني فياض، وما زالت سطورها الأولى على شفاه تلاميذ المدارس إلى يومنا هذا، حيث يقولون (إنني لأسمع وحدي خرير بحر مرمرة الذي يخفف آلامي).
أعظم الشعراء شأنا هو الشعب
وقد أنتجت حرب الاستقلال، رغم ما فيها من بؤس، لونا أدبيا جديدا، هو الأدب المعبر عن آلام الشعب وشقائه. وقد قال أحد النقاد: إننا اعتبارا من ذلك الوقت، بدأنا نعرف أعظم الشعراء شأنا، هو (الشعب). فالأدب الحقيقي يجب أن ينبعث من قلب الشعب، وأن يجد تعبيره على لسان الشعب. لقد أنتجت حروب الاستقلال شعرا أدبيا أصيلا مفعما بالشعور الوطني العميق الفياض. ومعبرا عنه بأسلوب بسيط صريح ساذج. وكان طابعه كارثة الانهيار التي انتهى إليها الكفاح في سبيل الاستقلال والتحرر من الاستعباد الأجنبي.
فالشعب اليائس لا يترنم إلا بالأغاني الحزينة، وهكذا كان أمر الشعب المجري. لقد حرم من حريته الوطنية فأخذ ينظر إلى تاريخه المجيد ويوازن بين الماضي والحاضر. عندئذ تملكت نفسه المرارة واجتاحته الآلام وأطلق لخياله العنان، فتفتح عن أدب روائي، أجزل فائدة لتاريخه القومي من الأدب البحت. لقد أصبح لزاما على الشعب أن يعيد بناء مدنه المخربة وقراه المنهارة. وفي مثل هذه الحالة، يصعب على المرء أن ينتج روائع في الأدب.
حل القرن الثامن عشر فكان فاتحة عهد سلام نسبي، مما ساعد حكم أسرة هابسبورج على الاستقرار وعلى تبوء مرکز مرموق بين الملوك والأمراء الأوروبيين. وتحسنت الأحوال الاقتصادية نوعا ما، فشيدت المباني الفخمة والقصور المنيعة على طراز غريب شاذ. وأكسبت البلاد روعة وبهاء، وكستها حلة من السناء. وكانت ماريا تيريزا Maria Theresia ملكة المجر الجديدة، هي الرمز الحقيقي لهذه العظمة. ففي سنة 1741 حفزت روح الفروسية والبسالة في الأمة المجرية. إذا ظهرت وسط الجموع، حاملة ولي عهدها بين ذراعيها، وطلبت إلى المجريين معاونتها في الكفاح المستميت ضد فريدريك الأكبر، ملك بروسيا، وهذه بلا مراء شجاعة جديرة بالإعجاب والإطراء، خاصة وأنها صادرة من امرأة. وأظهر المجريون روحا حماسية شرفية، مضحين بدمائهم وأرواحهم في سبيل الدفاع عن الملكة. واستمرت الحرب سنوات طويلة، امتاز فيها الخيالة المجريون بالبسالة والإقدام، ونازلوا الأعداء منازلة شهدت لهم بالبراعة في فنون القتال. ومكافأة لهم بالبراعة في فنون القتال. ومكافأة لهم على صنيعهم، شكلت الملكة من النبلاء المجريين، فرقة حرس خاصة، للسهر على قصرها في فيينا وكان الغرض الذي ترمي إليه الملكة من جراء ذلك، هو إخضاع هؤلاء المجريين للأفكار الغربية الحديثة بحكم اتصالهم المباشر ببيئتها، مقاومة روح التمرد التي دفعتهم إلى القيام بثوراتهم السابقة. أرادت الملكة إحلال روح الأنوثة في نفوس المجريين ذوي المراس الشديد والوعي الحي. لكن النتيجة جاءت على نقيض ذلك، وقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
فوجود حرس الشرف المجري بجوار قصر هابسبورج أتاح لأفراده فرصة الإلمام بالأدب الفرنسي الزاهر، وارتشاف أفكار الموسوعيين (الإنسيكلوبديين) الفرنسيين. فكان المصنفات فولتير فعل السحر على جورج بیشنه ي George Besseuyei من أشراف المجر. فحاول تأليف مسرحية مؤثرة ناسجا على منوال أستاذه الروحي. وفي ذلك الوقت، كانت المسرحيات مجهولة من المجريين، إذ كانت بلادهم خلوا من المساح وقد وضع هذا الكاتب بعض القصائد التعليمية وقصة سياسية، الغرض منها إيقاظ الشعب من سباته العميق. واقتراح إنشاء مجمع علمي مجري تشجيعا للدراسات العلمية باللغة المجرية. وكان له عدد كبير من التلاميذ، نذكر منهم بارونزي Baroezy وبارجاي Baresay واورتزي Oresy، وغيرهم من أفراد حرس الشرف الذين أنتجوا آثارا أدبية قيمة. أما في هنغاريا نفسها، فقد وضع الراهب آنوش Anyos بعض المراثي المؤثرة التي تمزق القلوب من شدة الأسى.
ويرجع لحرس فيينا الفضل في فتح النوافذ، التي سمحت للهواء الطلق بالهبوب من فرنسا إلى المجر. وفي ذلك الوقت أيضا، وضع راهب آخر يدعى دوغونيج Dugonies قصة مجرية، على غرار الأدب الألماني، الذي أخذ ينال حظوة كبيرة في الأوساط الشعبية والمصنف الذي وضعه هذا الراهب هو كتاب ضخم يروي حوادث مثيرة، بأسلوب خيالي وشعور مفعم. وقد انتشر هذا الكتاب في الطبقات الشعبية، بخاصة بين النساء المجريات، فأصبح عنوانه (ايتلكا)، اسما محببا، وأطلق على البنات عند مولدهن. هكذا اتخذ الأدب الألماني لباسا مجريا وسار بخطوات واسعة في طريق الانتصار. بدأ النسيم العليل يهب في سهول المجر. فقد اتسع نطاق المدن، واستردت التربة خصبها، وارتفع مستوى المعيشة في الطبقة الوسطى، فوجدت النساء فراغا من الوقت للتسلية وقراءة الكتب، وتذوق الأدب المجري كان تمثيل الشعب مقصورا فيما مضى على طبقة الإقطاعيين. أما الآن فقد تقدمت الطبقة الوسطى، فأصبحت قادرة على تشجيع الإنتاج الأدبي. في العصور السابقة، كان هنالك مؤلفون فقراء، ولم يوجد جمهور قراء. أما الآن، فقد أصبح هنالك جمهور يقرأ ويستمع ويطالب بالمزيد.
ظهرت قصص عديدة، متأثرة بالأدب الألماني، لكنها أعادت إحياء العقلية المجرية وأخذت تصف حياة الشعب – الطبقة العليا والطبقة الدنيا على السواء – ولم ترتفع هذه القصص إلى أوج السماء، بيد أنها كانت موفقة من حيث مواجهتها لاحتياجات الشعب. امتازت هذه القصص بالطابع المنطقي، ولم تخل من روح الفكاهة، بخاصة عندما تعمقت في تحليل حياة الشعب تحليلا دقيقا. وقد أخذ نطاق اللغة المجرية يتسع متمشيا مع احتياجات الأدب. حلت نهاية القرن الثامن عشر فنشرت الفزع في أوروبا بأسرها، إذ ثار مستعمرو أمريكا ضد استغلال التاج البريطاني، وأعلنوا استقلالهم عن الدولة البريطانية. وكان انتشار الأنباء بطيئا آنئذ، ونظرا إلى عدم وجود خطوط حديدية أو مواصلات بحرية بخارية أو إذاعات لاسلكية، فلم تكن أنباء أمريكا إذن هي التي فتحت أبواب سجن الباستيل.
كان المجتمع الأوروبي مؤسسا على التمييز بين الطبقات. فكان هنالك أمراء لا يتزاوجون بينهم. وكان هنالك كونتات وبارونات ونبلاء يحفرون بأنهم يعيشون بمعزل عن الشعب. والتزاوج بين أحد العظاميين وإحدى الفتيات الفقيرات لم يكن يحدث وقتئذ إلا فيما ندر، فإذا حدث، أدي للقطيعة التامة بين من يعقده وطبقته الاجتماعية. كان هنالك مثل دارج يقول: (يبدأ الإنسان من البارونية) (وهي أدنى ألقاب الشرف). وقد يصبح أحد محترفي التجارة أو المهن اليدوية متيسرا أو غنيا، لكنه لن يحظ بالامتيازات التي كان يتمتع بها العظاميون والأشراف. لم تكن هنالك أية فكرة عن المساواة بين مخلوقات الله عز وجل، فالآراء الاجتماعية المبشرة هي التي تقرر مصير أي مولود جديد. فانظر إلى الفارق الكبير بين هذا النظام الاجتماعي المتأخر المنحط، وبين تعاليم الإسلام وتقاليده التي تكفل المساواة للجميع، وتضمن تكافؤ الفرص للجميع في هذه الحياة، ما داموا يعملون بالوصايا السماوية ويعيشون حياة التقوى والصلاح، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. لقد دعا الإسلام لفكرة الحكم الشعبي (الديموقراطية) وعمل بها منذ ظهوره، فكان له قصب السبق على فرنسا، التي أعلنت بعد ذلك بألف سنة شعار ثورتها المعروف: (حرية – مساواة – إخاء).
إن أسباب الثورة قد استمدت جذوها من أصول أعمق غورا من حركة تحرير مستعمري أمريكا من تدابير الضغط البريطانية. تحالف عوامل عديدة في الكفاح ضد نظام أكل عليه الدهر وشرب، وأصبح غير ملائم للعصر في نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا، تحالفت عليه وكسبت المعركة النهائية الفاصلة. أما تلك العوامل العديدة فهي: العلوم، وكشف أسرار الكون، والأفكار الفلسفية التي نشرها جامعو دائرة المعارف، ونشوء طبقة متوسطة جمة النشاط نالت ثروة بفضل المخترعات الفنية. فتحررت واشتد ساعدها. بدأ بنو الإنسان يحترمون الحقوق الممنوحة إليهم من الله عز وجل، ويحتقرون الحقوق التي اختص بها لأنفسهم ملوك متعجرفون وغالبا فاسدون سيئو الخلق.
انتشرت فكرة الإخاء والمساواة في أوروبا، حيث كانت الأنانية مسيطرة على النظام الاجتماعي والاقتصادي. أما في المجر. فكان الشعب منقسما إلى طبقتين: الأشراف الذين يملكون الأرض نظير أداء الخدمة العسكرية، والمعنون لهذا السبب من الضرائب، والفلاحون الذين يكدحون في خدمة الأرض ويرهقون بالضرائب الباهظة، دون أن يتمتعوا بأي امتياز. وكان للأشراف محاكمهم الخاصة، بل كان لهم الحق في محاكمة أتباعهم وتوقيع العقوبات عليهم. فمثل هذا النظام أصبح يتلاءم مع تقدم المعلومات الفنية. وحدثت الثورة الفرنسية فحسنت الخطط الحربية، بأن أدخلت عليها نظام المعارف من خلف المتاريس، ودربت الشعب على إطلاق النار وإصابة الهدف. هكذا أصبح تنظيم الجيوش شرطا أساسيا للصمود أمام المشاة الماهرين في الرماية. وهزم الفوارس والأشراف المقاتلون بالسيوف والرماح، بالرغم من شجاعتهم وبسالتهم. إذ أنهم عجزوا عن مجاراة جيش من المشاة خفيف الحركة، ومتفوق عليهم في الخطط الحربية. وأسطع مثال لهذا التفوق، هو انهزام المماليك الأبطال في معركة امبانة.
سار الأدب المجري جنبا إلى جنب مع الثورة. فحروب نابليون لم تقتصر على نقل الجيوش عبر أوروبا، بل نقلت إليها أيضا الأفكار والآراء. أما الأدب المجري، فقد سار في اتجاهين مختلفين:
أحدهما ثوري، والآخر ثقافي، متأثرا بالأدب الألماني، وقد نسج جوزيف کارمان Joseph Karman على منوال (غيته في آلام فرتر) إذ وضع مصنفا عنوانه: (وراثة فاني Fanny) وهكذا فعل دایکا Dayka في مرثياته. ويرجع لكارمان الفضل في تأسيس أول مجلة أدبية في المجر، أطلق عليها اسم (أورانيا) وفي سنة 1790، افتتح في بودا أول مسرح للتمثيل باللغة المجرية. وهذا الحادث جدير بالتسجيل، إذ أخذت اللغة المجرية العامية تفسح الطريق أمامها، وتسير إلى الأمام بخطوات سريعة. بدأ الممثلون والممثلات يجولون في أنحاء البلاد ويوقظون الشعور الوطني من سباته العميق، وينفثون روح الحمية والحماسة في النفوس. وكان الزعيم الأكبر في هذا المضمار هو فرنسيس كازينتزي Kazincsy. لم يكن هنالك صحف وقتئذ فاتخذ من مكاتباته وسيلة لتشجيع الشبيبة على الكتابة، وترجم أروع المؤلفات وأبدع المصنفات إلى المجرية، عن الألمانية والإنكليزية والفرنسية. لقد أخذ على عاتقه حملا ثقيلا، وسجن سبع سنوات في سبيل آرائه السياسية، لكن التنكيل والتعذيب لم يضعفا عزيمته فلم يتحول عن الهدف الذي يرمي إليه وهو إيقاظ الشعب المجري من الجمود، وبعث آمال جديدة في النفوس، وقيادة الأمة في الطريق المؤدي بها إلى مجاراة أمم أوروبا الغربية ثقافيا واجتماعيا.
وإليه يرجع الفضل في محاولة خلق لفة مجرية صحيحة. لقد حال دون وجود أدب مجري صحيح ما تحويه اللغة من عبارات قديمة أو مشتقة من اللاتينية، أو منقولة عن لهجة البوير الغليظة. فالأفكار الحديثة في حاجة إلى تعبيرات لغوية ملائمة لها.. فابتكر كازينتزي كلمات، واشتق كلمات أخرى من أصول موجودة. وقد لاقي کازینتزي بادئ ذي بدء اعتراضا شديدا من جانب أنصار المدرسة القديمة لكنه انتصر في نهاية الأمر، فاكتسبت اللغة المجرية آلافا من الكلمات الجديدة، ولا تزال هذه الكلمات مستعملة حتى الآن. لقد کسیت جميع المصطلحات الخاصة بالعلوم الطبيعية والكيميائية والفلسفية والفنية برداء مجري أصيل صميم. والمبتذل منها ما البث أن اختفى من الوجود، أما التعبيرات الصميمة، فقد سلكت طريقها إلى اللغة المجرية فأكسبتها قوة، حتى أصبحت أوسع ثروة من اللغة الألمانية. فالمجريون يستخدمون الآن كلمات مجرية للتعبير عن المسرح وهي سينهازلا (تياتروم) المستعملة في جميع اللغات، وزئبق عبر عنها با هيجاني Higany، وكلمة الليتمان Allitmany معناها مفعول به، و(الان) Alany معناها المبتدأ به، و(فجيتان) Vegytan معناها الكيمياء، واللاتتان Allattan معناها (علم الحيوان) إلى غير ذلك من آلاف الكلمات المجرية الأصيلة التي لا توجد في اللغات الأخرى، مما اضطرها إلى اشتقاقها من اللاتينية أو اليونانية.
واللغة الوحيدة في العالم التي فاقت اللغة المجرية الحديثة، من حيث الجمال والأصل الصميم، هي بلا شك اللغة العربية الكريمة التي أصبحت الآن أداة للتعبير عن أعمق مشاعر الأمة وأفكارها ووعيها القومي. قال الكونت سيجيني Szechenyi أحد المصلحين المجريين: (إن الأمة تعيش بلغتها). وقد أدى تجديد اللغة المجرية إلى إيقاظ الشعب، فأنتج في زمن وجيز، مصنفات أدبية نضارع أروع المؤلفات في الأدب العالمي. لقد نما الأدب المجري، وترعرع غداة حروب نابليون.
المراجع
– بين فكرين: الأثر الشعبي المبدع في النتاج الفكري.
– أعده وأشرف على طبعه: صلاح دهني – مطابع فتى العرب – دمشق 1956