ليست جميع اللغات على مسافة واحدة من حيث استيعاب تطور الأفكار أو التعبير عن المشاعر وهنا يمكن القول إن أبدع اللغات وأرقاها هي تلك التي تعبر عن مشاعر الإنسان المرهفة.
اللغة في سياقها الروحي والثقافي هي هبة من أعظم الهبات التي أنعم الله بها على الإنسان وبها امتاز عن الملائكة وسائر الكائنات. وهذا ما يشير إليه القرآن في قوله تعالى “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (البقرة 31)، فقد أودع الله القدرة في الإنسان على تعلّم الأسماء وابتكار أسماء للأشياء التي تعرض أمام حواسّه أو للمعاني التي تلوح في عقله ووجدانه.
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على البيان وترجمة أفكاره ومشاعره وخبراته ونقلها للآخرين. وهذا من مظاهر التكريم التي خصّها الرحمن بالإنسان كما يقول تعالى “الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ” (الرحمن: 1 – 4).
جعل الله لكل فصيلة من الكائنات الحية لغة واحدة وكذلك الأمر لكل قانون من القوانين الطبيعية، بينما اقتضت حكمة الخالق بأن يجعل لكل أمة من الناس لغة ولسانا مختلفا ومتميزا عن غيرها، كما يقول الخالق تعالى في صريح التنزيل “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ” إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” (الروم 22).
ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الإنسان عاجز عن التفكير خارج اللغة، وبعضهم ذهب إلى وجود علاقة جدلية بين الفكر واللغة مفادها أن “الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه”، وهذا يعني أن جمود الفكر يعطّل نموَّ اللغة وتطورها. وأنه لا بد لكل لغة أن تتطوَّر لكي تعبِّر عن انشغالات أهلها وآدميتهم وتطلعاتهم الفكرية وحرياتهم المنضبطة.
ليست جميع اللغات على مسافة واحدة من حيث استيعاب تطور الأفكار أو التعبير عن المشاعر. وهنا يمكن القول إن أبدع اللغات وأرقاها هي تلك التي تعبر عن مشاعر الإنسان المرهفة وأفكاره المركبة. وهنا ندرك فرادة اللسان العربي والعلّة وراء اصطفاء الله تعالى لهذه اللغة لتكون رحِما للوحي الإلهي المبين ومِهادا لرسالته الخاتمة للعالمين.
لا تهدد معرفة اللغات الأخرى وإتقانها وعينا بقيمة لغتنا الأم أو رفعة مكانتها، كما لا تقتصر أهمية تعلّم لغات الشعوب الأخرى وفق مقولة “أمن مكرهم”، فحاجتنا إلى ذلك تنبع من حاجاتنا الحضارية المتواصلة للتعلم من تجارب الآخرين والبحث عن إبداعاتهم المعرفية في مختلف المجالات. وأستذكر هنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه “لحظات” الذي كان يعتبره وسيلة لتحقيق حالة من الاندماج بين الشّرق والغرب، حيث دوّن فيه الّلحظات الأدبيّة التي عاشها أيّام شبابه بين الأدباء في الغرب، وبين القُرّاء في الشّرق. وكان طه حسين يؤمن أنه لو تم تناول هذا الكتاب من قِبل القُرّاء عن فهم، سيؤدي إلى نشر المودّة، والتفاهم بين شعوب العالم العربي والغربي.
وقد أعطى القرآن الكريم للغة العربية روحا جديدة وألقى عليها ثوب الخلود، فكان حِفظ اللغة العربية هو من حِفظ الله لكتابه الذي تعهد به. فلا سبيل لفهم القرآن وتعقّل معانيه دون فهم اللغة العربية ودراسة أساليب بيانها. وهكذا ورغم كل المحن والأزمات التي مرّ بها العرب ما زالت اللغة العربية تحافظ على وجودها وسحر جمالها.
يحث القرآن الكريم على ضرورة الانسجام بين بلاغة الأقوال وحسن العمل والسلوك وعدم التباين بين القول والفعل، كما في قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف: 2 – 3).
اللغة العربية هي أكثر من لغة لسان فهي وجدان العرب وعقلهم ومستودع فكرهم وذاكرتهم، وهي الرباط الجامع الذي يصل بين أبنائها في الحاضر والماضي. ولم تكن العربية مجرد لغة شعر وأدب ودين فقد أصبحت لغة فلسفة وعلوم وانفتحت على الثقافة اليونانية والفارسية والهندية منذ حركة الترجمة وتأسيس بيت الحكمة في زمن المأمون.
ليست مشكلة اللغة العربية في عدم قدرتها على التطور، وإنما بالأفكار النمطية التي يحملها بعض أبنائها، وعدم شعورهم بحرقة السؤال عقب إجابة “لا أعرف”. جاء في كلمة الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا أثناء استلامها لجائزة نوبل في الآداب “لا أعرف.. كلمتان لهما جناحان. لو أن نيوتن لم يقل لنفسه لا أعرف، كان في أحسن الأحوال سيلتقط التفاحة ويأكلها”. ولطالما كانت العربية لغة الدين والدنيا والثقافة والفكر، وهي كذلك أول الجوامع التي يلتقي عليها أبناء الضمائر الحيّة، وكما يقول الرصافي: وتجمعنا جوامع كبريات/ أولهن سيدة اللغات لا بد لنا أن ندرك طبيعة الأزمة الحضارية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية وغير العربية وأثرها في إضعاف اللغة العربية كوسيلة للاتصال. وحيث أن اللغة العربية قد اعتُرف بها كلغة رسمية في الأمم المتحدة، فيجب مضاعفة الجهود للحفاظ على التراث النوعي في مجتمعاتنا العربية في الموطن والمهجر، وتطوير الأنظمة التعليمية والقوانين والتشريعات التي تحفظ التراث واللغة العربية في مجتمعاتنا المعاصرة.
واليوم ورغم كل الصعوبات التي تحيط بنا ونحن على مشارف العام الجديد لا بد أن نؤمن ونثق بمقومات هذه الأمة وقدرتها على صناعة مستقبل أفضل ينهض بمجتمعاتنا ويدفعنا نحو استئناف مسيرتنا الحضارية.